في 25 يناير بدأت انطلاقة الثورة المصرية حتى أطاحت برأس النظام التسلطي الذي تحكم في مصر منذ يوليو (تموز) 1952 وآخرها ثلاثون عاما من مبارك، ولكن لكي تكتمل الثورة لا بد من إعادة بناء الشخصية المصرية كشرط أساسي لتغيير النظام ونجاح الثورة، فما نراه من بلطجة ليس عرضا وإنما ثقافة كاملة الأركان أسست للبلطجة كنظام للحكم وللسلوك الاجتماعي والثقافي والسياسي. لماذا أطالب بإعادة بناء الشخصية المصرية كشرط أساسي للتغيير؟ منذ يوليو 1952 حتى الآن، مرت على مصر قرابة ستين عاما، أي من كان عمره 15 عاما وفي طور التكوين قبل الثورة، فعمره الآن 75 عاما تقريبا. أي ببساطة كل المصريين الذين يسيرون في مناكبها اليوم هم إنتاج حقبة الحكم السلطوي، ولم يكن الحكم فقط سلطويا بل جاء على قمة مجتمع سلطوي أيضا، أي ظلمات بعضها فوق بعض. ولكن قبل أن ندخل في جدل واسع حول الشخصية المصرية، علينا أن نرسم ملامح الحياة في ظل الأنظمة التسلطية عموما، ومصر جزء من هذه المنظومة، ثم ننطلق منها للحديث عن إعادة بناء الشخصية المصرية كشرط لنجاح الثورة. بداية في المجتمعات المغلقة أو التسلطية، يتبادل المسرح والحياة مواقعهما، فتكون الحياة مسرحا ويكون المسرح هو أقرب إلى الواقع، وفي المجتمع التسلطي أيضا تتبادل الرواية أو القصة الخيالية المواقع مع الصحيفة اليومية، فيصبح ما هو مكتوب في الصحيفة أقرب إلى الخيال وما هو مكتوب في الروايات أشبه بالواقع. لذا، نجد روايات نجيب محفوظ مثلا أكثر دقة في وصف الواقع من الصحف اليومية في مصر في عهدها وفي ما بعد، وكانت رواية جمال الغيطاني «الزيني بركات» أكثر دقة في وصف مصر عبد الناصر من صحيفة «الأهرام». في المجتمع التسلطي تكون الحياة هي خشبة المسرح لممارسة النفاق والشخصية البديلة، ليس بهدف إرضاء السلطة كما يخيل للبعض، وإنما تجنبا لها وخشية منها. فالديكتاتوريات لا تكافئ ولكنها تعاقب، هي لا تهتم بأن تجعل حياة الفرد أفضل ولكنها تستطيع أن تحولها جحيما إذا ما خرج هذا الفرد عن النص. وبالسلطة، لا أعني الدولة والحكومة وأدواتهما فقط ولكني أعني السلطة على إطلاقها، سلطة الأب وسلطة رجال الدين ممثلين في الحركات الإسلامية اليوم، وسلطة المجتمع بعاداته وتقاليده، كل هذه السلطات تحول الإنسان من حالة حياة عادية إلى حالة حياة مسرحية، لذا يخلد الإنسان العربي إلى النوم منهكا من شدة الإجهاد لأنه كان يؤدي على مسرح الحياة طوال النهار، يرسم نفسه بما ليس فيه. وقد كتبت في السابق عن فشل المسرح العربي، مدعيا أن الحياة العربية أكثر مسرحية من المسرح، ولا بد للممثل أن يكون عبقريا كي يقنعنا بأن أداءه أفضل، لأن المواطن العربي يؤدي على مسرح الحياة اليومية أفضل من أي ممثل على مسرح شكسبير أو مسرح نجيب الريحاني. فمنذ أن يصحو الفرد من النوم وهو يؤدي على أكبر مسرح مفتوح في القرية التي يعيش فيها أو الحي أو المدينة. يصبح الإنسان العربي حقيقيا فقط وهو نائم، وربما يحلم بالواقعية التي لا يعيشها. في دراسات لمجتمعات العبيد في الولاياتالمتحدة الأميركية، واضح بشكل جلي أن المرأة وابنتها من الخدم العبيد مثلا تتصرفان أمام سيد البيت في صحن الدار بطريقة القبول التام للسيطرة، وما إن تدخلا إلى المطبخ (أي عند نزولهما من على خشبة المسرح أو خارج إطار التمثيل) تلعنان السيد وأهله. شيء قريب من ذلك كنا نراه في مصر مبارك، فكنت أشارك في بعض برامج التلفزيون في مواجهة مع من نصبوا أنفسهم مدافعين عن النظام، وكنت أندهش من الفارق ما بين أدائهم الممسرح على الشاشة، وما يقولونه عن النظام الذي يدعون الدفاع عنه هم في جلساتهم الخاصة أو عندما يسر إليك أحدهم في حديث ثنائي وفي مكان مغلق، كنت أسأل نفسي: لماذا لا يثور هذا الشخص على كل هذا الظلم؟ والإجابة واضحة، هي أنه يعيش حياة التمثيل التي تمكنت منه فأصبحت جزءا من تكوينه. في جو كهذا غالبا ما تنعدم فكرة الأخلاق الأصيلة أو الالتزام بقيم طورها الفرد لنفسه، فترى الالتزام بالقيم الدينية بشكل مظهري على خشبة المسرح، ومتى ما تم النزول من على الخشبة تنكر الفرد لهذه القيم، لذا تجد الدين في هذه الأجواء غالبا ما يأخذ شكل المظاهر من إطالة لحى إلى قصر جلابيب إلى زبيبة في الجبهة...إلخ. حالة من النفاق المطلق، أو الأداء المسرحي المرهق. جاءت ثورة يناير ووضحت للإنسان المصري أن الحرية ممكنة، وأن هناك حياة أفضل خارج دائرة الوهم التي خلقها تلفزيون مبارك وصحف مبارك الخاصة والعامة. ومع ذلك وحتى الآن، لم يتخلص الإنسان المصري من الشخصية المسرحية التي تؤدى على المسرح الثوري الآن كما كانت تؤدى بنفس الحماسة على مسرح مبارك قبل 25 يناير، المطلوب الآن هو تكسير خشبة المسرح، لتكون الشخصية سوية، مطلوب سد الفجوة بين الشخص الممثل وضميره الحي، مطلوب إعادة بناء الشخصية المصرية خارج خشبة المسرح وخارج إدمان النفاق لكي تصبح الثورة ثورة بجد. نقلا عن الشرق الاوسط السعودية