ما أكثر وعود الدكتاتورية المدعية للديموقراطية هذه الأيام. دساتير جديدة حسب الطلب، والمقاس، واللون. مجالس وطنية لحل مشاكل الأوطان المتعثرة، منذ عشرات السنين. القضاء على نسبة الأميّة العالية، المتفشية في المدن والأرياف، بين الرجال والنساء. توسيع ورفع سقف الحريات الإعلامية، وإتاحة منجزات التكنولوجيا الحديثة في ثورة المعلومات والاتصالات للجميع. المساواة بين المواطنين بغض النظر عن الجنس، أو اللون، أو الدين، أو المذهب.. إلخ. فصل السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، فصلاً تاماً. ضمان عدالة القضاء، وعدم التدخل في شؤونه، وعدم الضغط السياسي على أحكامه. إجراء انتخابات حرة ونزيهة في مواعيدها المقررة، تحت إشراف الأممالمتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان، ضماناً لشفافية هذه الانتخابات. إتاحة حرية الرأي والرأي الآخر. والترحيب بالنقد الإيجابي البنَّاء. عدم الخلط بين المال العام والمال الخاص. إعطاء الشباب كافة حقوقهم المشروعة، وإشراكهم في كافة المجالات المتاحة. -2- تلك كانت معظم الوعود التي وعدت بها الدكتاتورية العربية منذ خمسة أشهر إلى الآن. وهي وعود لم تنل الشعوب العربية عشرة بالمئة منها خلال عقود طويلة سابقة. وهي إن دلَّت على شيء، فإنما تدلُّ على كذب هذه الوعود. ومثلها كمثل قطع الجُبن التي توضع للفئران في المصائد، لكي تُخدع بها الفئران، فتدخل المصيدة لتأكلها، فما تلبث المصيدة أن تنطبق عليها، ويتم اصطياد الفئران، والخلاص منها. وهذه الوعود الكاذبة، لم تُوضع إلا للمعارضة، التي تعتبرها الدكتاتورية العربية كالفئران، أو كالكلاب الضالة، كما سبق ووصفها معمر القذافي عدة مرات. وترمي الدكتاتوريات المعارضة في السجون هذه عشرات السنوات، حتى تموت هناك جوعاً، وقهراً، ومرضاً، دون محاكمة أو سؤال. ولكن المعارضة العربية التي تثوِّر الآن الشوارع العربية على النحو الذي نشاهده في ليبيا، وسوريا، واليمن، وغيرها من البلدان العربية، أصبحت ذات مناعة، ضد هذه الوعود الكاذبة. وهي تعلم علم اليقين أنه في الوقت الذي تعد فيه الدكتاتوريات بهذه الوعود، أو بجزء منها، وتفرِّغ سجونها المتعددة، التي يفوق عددها عدد المعاهد والجامعات من المعتقلين، فإنها في الوقت نفسه تملأ المقابر الجماعية بالضحايا، والأبرياء. وهو ما شاهدناه على نحو مباشر في عراق صدام حسين، وفي سوريا منذ 1970 حتى الآن. فالدكتاتوريات يمكن أن تُفرِّغ السجون من المعتقلين السياسيين وأصحاب الرأي الآخر، ولكنها في الوقت نفسه تملأ المقابر الجماعية، بجثث القتلى من المواطنين المطالبين بالحرية، والعدالة، والمساواة. -3- إن كل عاقل راشد، حزين الآن على حال أجزاء كثيرة من العالم العربي، حيث أصبحت هذه الأجزاء في مأزق حرج. فالدكتاتوريات في العالم العربي تُقسم إلى قسمين: دكتاتوريات خضراء، كتلك التي كانت في تونس، ومصر. ودكتاتوريات حمراء، كتلك التي كانت في العراق في عهد صدام حسين، وتلك التي هي في ليبيا، وسوريا، واليمن، وغيرها. الدكتاتوريات الخضراء دكتاتوريات هينة لينة، يمكن أن تسقط بسرعة، ومن أقل نسمة هواء ثورية كما حصل في تونس ومصر. ذلك أن فسادها المالي والسياسي محدود، وسطحي، وغير متجذر في المجتمع. لذا كان اقتلاعها سهلاً ويسيراً، كما حصل في تونس ومصر. أما الدكتاتوريات الحمراء، فهي دكتاتوريات قاسية قسوة الصخور الصلدة. وتحتاج إلى (بلدوزرات) ضخمة، لكي تقتلعها من تربتها التي هي فيها. أما فؤوس الفلاحين التقليدية، التي استعملت في تونس ومصر، فلا تجدي نفعاً مع هذه الدكتاتوريات. و(البلدوزرات) الضخمة القالعة، كما حصل في العراق 2003 عاجزة الآن، وكسيحة، ولا نية لديها لاقتلاع أحد، بسبب مشاكلها المالية، وظروفها السياسية الصعبة، وبسبب الدروس المستفادة من العراق وأفغانستان. أما الدول الأوروبية، فهي تساند، وتدعم، بالتصريحات، والبيانات، والقرارات الدولية. فنسمع طحناً، ولا نرى قمحاً، ولا شعيراً. فها هو القذافي منذ 17 /2 /2011 إلى الآن، يقتل ويُنكِّل بشعبه، ويدمر ليبيا، ولا نسمع غير طحن، دون قمح، أو شعير. أما في سوريا، فالثورة مشتعلة، وقد خرجت من أسوار المدن إلى القرى والمدن الصغيرة، منذ 16 /3 /2011، وما زالت نار الثورة تمتد وتمتد، في كافة نواحي سوريا. وما زالت الوعود الدكتاتورية الكاذبة تتدفق، وما زالت أبواب السجون تُفتح، ولكن ما زال حفارو القبور يحفرون المقابر الجماعية؛ لدفن عشرات الضحايا كل يوم. كذلك الحال في أجزاء أخرى من العالم العربي. -4- ولكن إلى متى سيستمر الحال على هذا المنوال؟ إلى متى تُفرَّغ السجون، وتمتلئ المقابر؟ إلى متى تُدمر الأوطان، وتُفنى الشعوب على هذا النحو؟ فأين النصير، وإلى أين المصير؟ الدكتاتوريات العربية لديها كل شيء، الجيش، والبوليس، والسلاح. والشعب أعزل ليس لديه غير سواعده، التي يُشمِّر عنها كل صباح، ويطلقها في الفضاء مع صيحات الحرية، والديموقراطية، والعدالة. وفي زمن أغبر، ومالح، ورديء، كالزمن العربي الحاضر، لا نصر إلا للقوة. حتى ولو كانت هذه القوة غاشمة. فهل تستفرد قوة الدكتاتوريات الحمراء العربية بشعوبها في غياب قوة خارجية عظمى، تحسم المواقف كما سبق وحسمتها في العراق عام 2003، ولا تخشى الثمن المادي الباهظ، والثمن العسكري العسير عليها الآن، واللوم والتقريع الإعلامي الغربي والعربي المرير، الذي صاحب الحملة على العراق، وقبلها الحملة على أفغانستان؟ نقلا عن الوطن السعودية