ونحن نقارن ونقارب بين العرب ودولهم ودولة السويد التي تقبع في قمة التطور المدني والإنساني نود التأكيد مرة أخرى أن هدفنا ليس غرس الإحباط في صفوف العرب لا سيما من القاطنين في بلد الحرمين، حيث يتواجد أغلب قراء هذه الجريدة الغراء. العرب أخذهم اليأس عندما كانوا ينوءون تحت نير وثقل جاهليتهم. في تلك الفترة المظلمة كانت الحضارات السائدة عندئذ تسخر منهم ومن عاداتهم وأيامهم وشؤونهم. ولكن ما إن حلّ الوحي بينهم بواسطة نبي أمي حتى تلقفوه وتحولوا من خلاله من حال الإحباط واليأس والقنوط إلى شعلة صارت تنير الدنيا درجة أن المسيحيين في الشام فضلوا جيوشهم وفتحهم وسيطرتهم على سيطرة مسيحيين آخرين (البيزنطيين) ممن كانوا يسومونهم العذاب والهوان. واستقبل مسيحيو العراق الفاتحين الجدد بالأحضان أيضا لأن العرب أنقذوهم من اضطهاد الفرس – اضطهاد ربما لم تعرف المسيحية المشرقية مثيلا له في تاريخها الطويل. الإحباط واليأس لا يجوز أن يصيب العرب. الإسلام كما أعرفه – وأكدت ذلك سابقا – دين يحول المجتمع من حال إلى حال أفضل من جميع النواحي. وإن فشل مجتمع إسلامي في تغيير ذاته نحو الأفضل فهذا معناه إما أن المجتمع قد تنصل علانية عن القيم الإسلامية الحقيقية أو أنه مرتبط بها شفويا وبعيد عنها عملا. ومن هذا المنطلق أخاطب أبناء وبنات بلاد الحرمين. هذا البلد الأمين – برأيي المتواضع – مرشح قوي بما يملكه من طاقات بشرية ومكامن من المعادن والنفط والغاز وغيرها أن يرتقي إلى مصاف السويد ويؤسس دولة عربية إسلامية ترتقي سلم الحضارة والمدنية بسرعة مذهلة مع الحفاظ على عروبته وإسلامه. وأنا أراقب المنطقة العربية يحزنني القول إنني لا أرى حتى هذه اللحظة بلدا يتجه بسرعة ماليزيا على سبيل المثال صوب الرقي. ولكنني ألاحظ بوادر – ولو أنها خافتة حتى الآن – في بلد الحرمين لتوجيه البوصلة نحو العلو الحضاري بمناحيه المختلفة. وتواجد عشرات الآلاف من الطلبة السعوديين في دول متطورة لنهل العلم والمعرفة واحدة من هذه البوادر إن تم استغلاله استغلالا صحيحا. والتطور الذي نتمناه للعرب بصورة عامة ولبلد الحرمين بصورة خاصة يجب ألا يتم على حساب لغتهم. لماذا؟ ليس لأن اللغة العربية لها مكانة ترقى إلى القداسة لدى كثير من المسلمين لأنها لغة القرآن. التطور والتمدن الذي يحصل على حساب اللغة الأم في أي بقعة من العالم يؤدي إلى نتائج كارثية تصل درجة أن الشعب الذي يرضى أو يوافق مرغما أو اختياريا على ترك اللغة الأم لا يبدل لسانه فقط بل عقله وفكره وتاريخه وذاكرته وثقافته وتراثه وحضارته. ترك أو تهميش اللغة الأم لم ولن تقبل به أي دولة متمدنة في عالم اليوم. فكيف يقبل به بعض العرب؟ التطور الذي يحدث على حساب اللغة الأم تطور كاذب ومغشوش لا يقاوم أبسط عوادي الزمن. ولأنه مغشوش، تراه بعيدا عن التوطين، أي أن ما تشاهده أو تنبهر له عيناك من مظاهر – عمارة شاهقة ومبان فخمة وفنادق ومنتجعات أسطورية – كلها تعتمد أساسا على أصحاب لغة غير اللغة الوطنية. وإن حدث وأن بدل أصحاب اللغة الوطنية – العربية – لغتهم الأم لمصلحة اللغة الجديدة، فالأجنبي لا يحتل العمارة والمباني الشاهقة وكل رموز التطور الأخرى وحسب، بل يدخل العقول والقلوب ويحتلها دون جهد يذكر. وأول شعب تنبه إلى الدور الخطير الذي تلعبه اللغة الأم في تكوين الإنسان كان السويديون. الدولة في السويد تولي اللغة الأم اهتماما استثنائيا لا يقل عن الاهتمام الذي توليه للجامعات ومراكز البحث. وقد تحدثنا عن ذلك في رسالة الأسبوع الماضي. ولكن ما أدهشني هو الاهتمام الكبير الذي توليه الدولة للغة الأم لكل الفئات التي يتكون المجتمع منها. هذه المسألة التي أدهشتني حقا قد لا يستوعبها بعض القراء الكرام. العلماء السويديون توصلوا إلى نتيجة مدهشة من خلال الأبحاث التي أجروها على اللاجئين مقارنة بأقرانهم من السويديين. أسس هذا الاكتشاف هي أن الطفل أو حتى الشخص البالغ الذي تحرمه من لغته الأم كأنك تحرمه من جزء كبير من إدراكه وعقله. أي لا يجوز تحت أي ظرف حرمان الطالب من تعلم اللغة الأم لأن هذا يعني حرمانه من فهم جزء كبير من محيطه وتكوينه. والطفل المحروم من تعلم اللغة الأم سينمو ولكنه معاق ذهنيا وسيكون أقل استيعابا أو أقل مساهمة في المجتمع من الطفل الذي سنحت له الفرصة لتعلم اللغة الأم. ولهذا تفرض السويد على العرب – وغيرهم من الأقوام – من القادمين إليها تعلم اللغة الأم. واليوم هناك أكثر من 22000 طالب عربي في السويد ملزمون بدراسة اللغة العربية كجزء من المناهج الدراسية. وهذا يكلف الدولة ملايين وملايين الدولارات سنويا. أذكر هذا وأنا أرى كيف أن الكثير من الآباء والأمهات في الخليج يرسلون أبناءهم وبناتهم إلى مدارس تدرس بلغات أجنبية بدلا من مدارس التدريس فيها باللغة العربية. هل يعرف هؤلاء مقدار الأذى الذي يلحقونه بأنفسهم وأبنائهم وبناتهم جراء ذلك؟ هذا عدا ما للغة الأم من دور ومكانة في التاريخ والحضارة والذاكرة الإسلامية والعربية نقلا عن الاقتصادية السعودية