يبدو من سياق الأحداث أن عذابات أهلنا في ليبيا ستطول أكثر مما توقع كثيرون، والسبب أن طاغيتها أقدم على فعل ما لم يتخيله كثيرون، إطلاق النار على شعبه بهذه الوحشية، ومحاولة خلق فتنة قبلية وحرب أهلية، والتمسك بالحكم وإن على بقايا دولة تغرق في الدماء. وفي ظل عدم الرغبة في تدخل أجنبي يشك كثيرون في أهدافه، وفي ظل عجز عربي عن التدخل يشك كثيرون في فعاليته، بل يظن كثيرون بتواطؤ بعض الأنظمة العربية مع النظام الليبي، لذا فإن الأزمة مرشحة للاستمرار، ما لم تحدث معجزة تمنع نيرونها من التلذذ بمنظر النيران الملتهبة تأكل أخضرها ويابسها، أو تجبره على مغادرة ليبيا قبل أن يهدم ما تبقى من أعمدتها على نفسه وعلى من سيبقى من أهلها معه. لكم تغير هذا الرجل للأسوأ خلال سنوات حكمه الطويلة، التي لم تضف إليه لا خبرة ولا حكمة، بل زادته جهلا ونزقا، لكم تغير عما رسمناه له، أو توسمناه فيه بداية حكمه من وطنية حقة واستقامة وإخلاص، ولم تكد تمضي عليه في الحكم سوى سنوات قليلة حتى بتنا نردد حسرة منه ومن أمثاله «آه أيتها الوطنية كم من الجرائم ترتكب باسمك». خذوا دليلا وليس مثالا، فالأمثلة أكثر من أن تحصى، في أول ظهور علني له، وأثناء أول قمة عربية يحضرها، لفت نظره أن كبير ياورات ملك المغرب الحسن الثاني قبّل يد الملك، فصاح بالملك: «يا أخ حسن انتهى زمن العبودية»، ثم أنظروا له اليوم بعد نهاية خطابه الذي هدد فيه بمطاردة أحرار ليبيا من زنقة إلى زنقة، وكيف قام كبير ياوراته بتقبيل يده ورأسه وانحنى أمامه حتى كاد أن يفقد توازنه. للمرء أن يتساءل، بعد كل هذه القمم العربية التي حضرها القذافي، هل الطغيان مرض معد ومتفشٍ إلى هذه الدرجة داخل أروقة القمم، أم أن السلطة المطلقة هي التي تولده وتنشره؟ أتيحت للعقيد القذافي فرصة لم تتح لغيره من القادة العرب، قام بانقلاب على ملك غير راغب أصلا في الحكم، لم يكن له وريث ولتعففه لم يرغب في تولية أحد أقاربه، تولى القذافي الحكم بدون إطلاق رصاصة واحدة، لكنه قضى بقية حكمه وهو يطلق الرصاص في وجه زملاء ثورته، فإن لم يجد ففي وجه شعبه، تولى حكم دولة عطّل الاستعمار الايطالي كل مناحي الحياة فيها. وبدلا من التفرغ لتطوير وإنشاء دولته ذهب يبحث عن زعامة أكبر من حجمه، دخل حالات اتحاد عدة جماعية وثنائية بحثا عمن يهتف باسمه وكان خروجه من هذه الاتحادات الهشة أسرع من دخوله فيها. طوال سنوات حكمه لم يتعلم القذافي شيئا من الحكمة أو الكياسة أو السياسة أو حسن الخلق أو حتى حسن التصرف، بلغ به الغرور أن غير تاريخ استقلال بلده فنسبه إلى اليوم الذي استولى فيه على الحكم، اعتبر نفسه مفكرا وطرح نظرية ثالثة لحل مشاكل العالم المتخلف، تبحث فيها عن فكر أو نظر فلا تجد إلا فتاتا، عد نفسه مناضلا باسم العالم الثالث ضد الامبريالية العالمية، فشط في خصوماته وخلق لنفسه ولشعبه عداوات لا حصر لها، بلغ به جنون العظمة أن سمى نفسه ملك ملوك أفريقيا، بل أدعى أنه من حقق المجد والسؤدد لا لليبيا وحسب، بل للعرب والمسلمين والعالم أجمع. ولأن القبح يظهره الأشد قبحا منه، فقد ضحكت ملء شدقي عندما حضر القذافي آخر قمة عربية في بغداد أيام حكم صدام حسين، الذي كان أشد غرورا منه، ولما أراد صدام إعطاءه فرصة الحديث قدمه قائلا: «الكلمة الآن لرئيس مدري شنو جماهيرية عظمى مدري صغرى» فامتقع وجه القذافي وألقى كلمته متلعثما كأنه طاووس نزع منه ريش ذيله، وأظنها المرة الوحيدة التي صفقت فيها لصدام لإيماني أن التكبر على المتكبر تواضع. هاهو العقيد، يا لسخرية التاريخ، يقارن وفي نهاية أيامه بصدام لا في الغرور وحسب، بل وفي القدرة على الفتك بشعبه مستخدما، لا أقول جيشه، فالجيوش الوطنية لا تطلق الرصاص على مواطنيها تحت أي ظرف كان، بل مستأجرا قوى أمنية محلية وأجنبية أمضى العمر يدربها ويسلحها بما يفوق جيشه النظامي عتادا وعددا، هاهي الأيام تكشف حقيقة المناضل الأممي الذي يفاخر اليوم بأنه كان حارسا للشواطئ الأوربية، ويجاهر بحمايتها من المد الإسلامي، هاهي تنكشف حقيقة المفكر العالمي الذي عقد التحالفات السرية المخجلة مع من كان يوهم الآخرين أنه يحاربهم، هاهي تنكشف أسرار قصوره وسراديبه السرية للهرب وقت الحاجة. تجلت ضحالة تفكير الرئيس الملهم عندما أمر بتوزيع هبة بمقدار 400 دولار لكل مواطن من سكان طرابلس لمنعهم من التظاهر ضده، متصورا أن بإمكانه رشوتهم، بل حاول إغراء كل شعبه الأبي الذي ثار عليه، هذا الشعب الذي، برغم امتلاك ليبيا لأكبر مخزون نفطي وبرغم أنها أكبر منتج في أفريقيا، بقي عاطلا يصارع حقيقة تخلفه مقارنة بشعوب العالم حوله، تخيل القذافي أن بإمكانه إذكاء صراع القبيلة ضد الدولة أو توليد نزاع القبلية ضد الوطنية بينهم، وهي صراعات سقطت حتى في أقوى الدول قبلية وتمسكا بها، كما في السودان وأفغانستان واليمن التي راهن كثيرون على صراعاتهم القبلية كحجر عثرة يعوق رغبات الشعب في التغيير وتطلعاتهم للتطوير فسقط المراهنون وانتصرت الشعوب. تصور العقيد أنها ثورة جياع يمكن إسكاتها بالمكرمات والهبات وليست ثورة كرامة وحرية وعزة حرم شعبه منها لسنين، بل حاول تقديم الثورة للغرب مستخدما فزاعة الإسلاموفوبيا، فتاجر بدينه وشوهه عند العالم مقابل الاحتفاظ بكرسي عرشه نقلا عن المدينة السعودية