من أبرز ما أفرزته الانتفاضات العربية الحالية, بله أبرزها, اختفاء الشعارات الدينية والمذهبية من ميادينها. تلك الشعارات التي كان يُنظر إليها على أنها العامل الوحيد القادر على تحريك الجماهير العربية. لكنَّ السياق الجديد بدا وكأنه لا يعتبرها مجرد صوت من عدة أصوات أخرى تتنافس مع لداتها في ميدان مدني صرف, بل إنه يكاد أن يخفيها من حلبة المنافسة تماماً, لا لشيء, سوى أنه يراها لا تمتلك الحد الأدنى من مقومات المشاركة المدنية. كنا نظن أن لتونس فرادة خاصة في هذا المجال, مجال خفوت الصوت الأصولي, نسبة ل"تمْدين" قطاعاتها الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية, وخاصة الأخير(= التعليم), الذي طُعِّم بمناهج الفلسفة و الأديان المقارنة, وبالخصوص, إبان تولي (عبدالمجيد الشرفي) مسؤولية وزارة التعليم, ذلك الألمعي الذي طبع التعليم التونسي بطابع فلسفي وحداثي قل نظيره في البلدان العربية. هذا التحديث التونسي, في مجال التعليم خاصة, ساعد في إنضاج مجتمع مدني قادر على النأي بنفسه عن الوقوع في أتون ومستنقعات الأصولية. ما أن أوشكت الاحتجاجات من الاقتراب من الحِمى المصرية حتى كاد المراقبون أن يجمعوا أن الساحة ستكون ملكاً حصرياً لأكبر الجماعات الإسلامية وأكثرها نفوذاً وصخباً ودموية, أعني بها جماعة الإخوان المسلمين. إلا أن الأحداث جرت فيما بعد بما لا تشتهي الإجماعات ولا الأماني العِذاب. لقد اتحدت كل الشعارات تحت لواء الواقع المدني البحت, ما عدا الشعار الإيديولوجي عامة, والشعار الإخواني خاصة. لقد اختفت شعارات كانت تأخذ بألباب الجماهير المستلبة بالفزاعات الأصولية, من قبيل: الاستكبار العالمي, والتغريب, وحرب الإسلام, وإخراج المرأة المسلمة من خدرها, والكيد للإسلام والمسلمين. مثلما اختفت دعوات "الجهاد المقدس" ضد "الكفار"! عموماً, وضد أمريكا والغرب خصوصاً, بعد إلقاء إسرائيل في البحر!. وجماع تلك الشعارات كلها, الشعار الإخواني الأثير:"الإسلام هو الحل". كان الميدان يضج بمفاهيم جديدة عصية على التماهي الأصولي, والإخواني بشكل أخص, مفاهيم مدنية تحور مضمون الجهاد ليصبح جهاداً للنفس ينأى بها عن أن تُفتن في واقعها, فتقعد عن طلب حريتها ورغد عيشها والتمتع بحقوقها الطبيعية كما أراد لها خالقها!. هذه الشعارات المدنية الدنيوية الخالصة أصابت أقطاب ومريدي جماعة الإخوان هناك في مقتل, الأمر الذي جعلها تهب إلى حيث تجميل وجهها المعفن بتغيير ما يمكن تغييره من معالمه, كما العجوز الشمطاء منكوثة الشعر التي تجد نفسها فجأة في محيط شاب ناعم باسم, فتفزع إلى حيث تغيير معالمها الخِلْقِية التي لم تزد معالمها الخُلُقية إلا خبالاً. لقد سمح الشباب المصري لجميع الشعارات التي تستظل بغمامة الحرية أن ترتفع, ما عدا الشعارات الإسلاموية للإخوان, لأنها كانت, ولا تزال, وستظل, شعارات ضد الحرية, بل ضد الإنسانية في عمومها. منْع الشباب المصري للشعارات الإخوانية جاء تضامناً مع مضمون الشعار الأسمى الذي انتظم تلك التظاهرات, ذلك المضمون الذي أكد, ولا يزال, على أن لا حرية لأعداء الحرية, ومَنْ أكثرُ عداء للحرية من الفزاعات الأصولية. بل إن ضرْب الشباب المصري لجماعة الإخوان لم يتوقف عند هذا الحد, بل امتد إلى ما تحت الحزام, فهاهو الحراك المصري لمرحلة ما بعد مبارك يكثف مشاوراته حيال إلغاء أو تعديل المادة الثانية من الدستور, والتي تمثل آخر معاقل الإخوان, والتي إن سقطت أو حوِّرت, فسيكون على الجماعة أن تيمم وجهها نحو أمرين لا ثالث لهما, إما الانغماس في المدنية الجديدة بلا زيف أو نفاق, أو الاختفاء النهائي من الساحة التي لا تضيق بشعار قدر ضيقها بالشعارات الأصولية. مع ذلك, لم يطق الإخوان رؤية الساحة وهي تتفلت من أيديهم في طريقها إلى الأيادي المتوضئة, ولذا, جاءت استجابتهم سريعة, ولكن بشنشنة نعرفها من أخزم الأصولي. فلقد أكدت الجماعة أنها لا تتوق إلى حكم مصر ابتداء, وأنها بالإضافة إلى ذلك, لن تطالب بتطبيق الشريعة, وأن هذا أمر يؤول إلى الشعب المصري! مثلما أكد راشد الغنوشي على إثرهم أن جماعته: حزب النهضة التونسية, إذ هي لا تتطلع إلى حكم تونس, فإنها لا تطالب هي الأخرى بتطبيق الشريعة, وعوضاً عن ذلك, فستطالب(=حزب النهضة) بتطبيق الديمقراطية الكاملة. وهي شعارات كانت تكفرها في الأمس القريب, كافة الجماعات الأصولية, وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. تَرْك الشعب ليقرر بنفسه الطريقة التي يُحكم بها, يمثل مبدءاً علمانياً طالما جندت جماعة الإخوان نفسها لمحاربته منذ تأسيسها في أواخر عشرينيات القرن الماضي, باعتباره "إفتئاتاً" على حكم الله, وبالتالي فهو"كفر بواح", ونظام الحكم الذي يتولد منه"حكم بالطاغوت", والمجتمع الذي يرضى أن يحكم بهذا المبدأ مجتمع كافر ارتد إلى جاهلية معاصرة أشد من الجاهلية الأولى!. تُرى, أُنزل على أقطاب الإخوان وحي جديد (يؤسلم) الديمقراطية؟ أم تراهم اكتشفوا تأويلاً جديداً لا يرى غضاضة في أن تختار الشعوب نظاماً آخر لحكمه, ولو على حساب الشريعة؟ أليست هذه مبادئ العلمانية في أجلى صورها؟ إذاً لماذا تورطوا العالم الإسلامي, وتحزبوه وتعسكروه, وتخربوا بيوته بأيدي أبنائه وأيديكم, محاربة لهذه المبادئ العلمانية التي تدَّعون اليوم أنكم تؤمنون بها ؟ وإن تعجب فعجب توافق الأصوليات, رغم احترابها فيما بينها, على حرب الظاهرة المدنية الجديدة. تجلى ذلك بأبهى صوره في التظاهرات التي عمت مدن العراق مؤخراً, العراق الذي يمثل "واحة" الديمقراطية كما كان المحافظون الجدد يزعمون. لأول مرة, منذ سقوط النظام الصدامي, يُلبِس العراقيون تظاهراتهم لباساً مدنياً غير موشح بأي وشاح أصولي. هذا التطور الجديد, نبه قرون الاستشعار الأصولية للخطر الذي يحدق بها, الأمر الذي أدى بالمرجعيات السنية والشيعية هناك,على الرغم مما بينها من إرث احترابي مذهبي طويل, إلى أن تتحد فيما بينها, لإصدار" مانيفست" جماعي يحذر العراقيين من التظاهر ضد حكومة المالكي باعتباره "ولي الأمر!" الذي لا تجوز مخالفته. يحدث ذلك, رغم أنها(= المراجع المذهبية) لا تفتأ تغتنم كل مناسبة لتحريض العراقيين على الخروج العنيف دعماً لخياراتها المذهبية. زعيم التيار الصدري: مقتدى الصدر, الذي لا يمل من تكرار موقفه الرافض ل"شرعية" أي حكومة عراقية في ظل الاحتلال, وبالأخص حكومة المالكي, انتفض كالملدوغ, عندما أدرك خلو الانتفاضات العراقية من الشعارات الأصولية, فدعا إلى" منح حكومة المالكي فترة ستة شهور قبل التظاهر ضدها". بل إن العجب يأخذ مدى أعمق, إذا علمنا أن الأصولية المسيحية هناك اتحدت مع نظيرتها الإسلامية ضد الخطر المدني الجديد. فلقد أصدر رؤساء دواوين الوقف الشيعي والسني والمسيحي بيانا دعوا فيه المشاركين في المظاهرات إلى "منح الحكومة العراقية مهلة كافية لتلمس أثر المصادقة على الميزانية العامة ثم الحكم عليها". مثلما شددوا فيه على"حرمة دم الشعب العراقي وصيانة أمواله وممتلكاته", مؤكدين على "حرمة الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة من منشآت ومؤسسات وغيرها". هذا الحرص المفتعل على دماء العراقيين وأعراضهم, كما الباب الذي في باطنه الرحمة وظاهره من قبله العذاب, لأن السؤال الممض : أين هذا الحرص عندما كانت الدماء العراقية البريئة تسفك على المذبح المذهبي بمباركة ملالي الشيعة وشيوخ السنة؟ ولعل السؤال المهم هنا هو: هل سقوط الشعارات الأصولية مؤذن بنسق فكري جديد ينشط فيه العقل العربي من عقاله؟ نسق ينجلي فيه الليل العربي, وينكسر على مخرجاته القيد؟ أم هذا السقوط موقوت بسياق زمني ذي ظرف خاص, لا تلبث فيه تلك الشعارات أن تبعث من جديد حال زوال ذلك الظرف؟ الإجابة المناسبة تتوقف على اختيارات الجيل الجديد الذي دشن حراكاً مدنياً أذاب الفوارق الدينية الطائفية والإثنية, حتى استبان الفرد العربي في إنسانيته, ربما لأول مرة في التاريخ. نقلا عن الرياض .