أضاف المصريون علامة فارقة إلى اثنين من أشهر السنة في بلدهم فلم تعد العلامة الفارقة هذه حكرا على شهر يوليو (تموز)، الذي حدثت في الثالث والعشرين منه عام 1952 ثورة الضباط الأحرار، وشهر يونيو (حزيران) الذي حدثت في اليوم الخامس منه عام 1967 الهزيمة، وشهر مايو (أيار) الذي اقتلع الرئيس أنور السادات في الخامس عشر منه عام 1971، بمساندة من أشرف مروان (صهر عبد الناصر) الذي لقي حتفه انتحارا في لندن، المجموعة الناصرية التي سماها «مراكز القوى»، وشهر أكتوبر (تشرين الأول) الذي أنجز الجيش المصري في اليوم السادس منه عام 1973، حدثا ما كانت لتتوقع حدوثه الأوساط العسكرية الدولية، وأخذ بالتالي طريقه إلى التصنيف بأنه معجزة عسكرية، كون القوات المصرية نجحت وبوسائل لا علاقة لها بالتقنيات العسكرية المتقدمة في عبور قناة السويس من الغرب إلى الشرق، وهي الحاجز المائي الأكثر صعوبة، الذي اعتبرته إسرائيل حتى اليوم الخامس من أكتوبر حاجز الأمان بالنسبة إلى قواتها التي تحتل الضفة الشرقية من قناة السويس وصحراء سيناء بكاملها، ثم إذا بأبطال المحروسة مصر يعبرون على أهون السبل ثم يذيبون جدار بارليف، ذلك الحصن الحصين بخراطيم مياه القناة، التي عطل العدوان الإسرائيلي مجراها بإغراق سفن كانت في طريقها إلى مرافئ، وبذلك حرمت مصر، المحتاجة أصلا إلى مداخيل، المرور في القناة. من خلال الغضب الناشئ عن فساد استشرى وبقاء طال عما هو حق واستئثار بالمناصب والمكاسب، تكونت حركة احتجاج استهان بها أهل السلطة، على أساس أنه ما دام الجيش مستكينا ولا اعتراض من جانبه على ما يجري فإن الأمور تبقى، مهما اتسعت دائرة الاحتجاج والغضب، تحت السيطرة. وكان يمكن أن يبقى الأمر كذلك لولا أن وقائع الفساد والإفساد شملت الذين في أيديهم مصائر البلاد والعباد، ولذا بات لا بد من فعل حازم، فكان الاحتكام إلى الميدان وبسلاح يدوي وإرادة تتحمل تحديات أهل السلطة. وانتهى الأمر إلى أن معجزة العبور العسكري من أجل التحرير، والقائمة على الإيمان بالحق والصبر الجميل والعزيمة الراسخة، بات لها بعد 38 سنة معجزة شقيقة هي معجزة العبور السلمي من أجل التغيير، وتتجلى أهمية الحدث في أن الجيش ينضم إلى الشعب أو يصطف إلى جانبه حاميا، عكس ما كان يحدث عندما يتحرك الجيش منذ انقلاب حسني الزعيم في سورية ويبذل جهدا خارقا لجذب الشعب إلى جانبه من خلال التظاهر أو برقيات التأييد. والقول بأن العبورين هما معجزتان، تؤكد صوابيته الظروف التي حدثت فيها كل منهما. وكما الأول دخل التاريخ العسكري كنموذج للتحرير، فإن الثاني سيأخذ طريقه إلى التاريخ السياسي كنموذج للتغيير، وكيف أن المؤسسة العسكرية، وفي العالم الثالث حيث هواية الانقلابات العسكرية هي السائدة، يتناغم أفراد الجيش مع المتظاهرين، ويصل التناغم إلى حد أن هؤلاء المتظاهرين باتوا يرون أن جيش البلاد وشبابها في مركب واحد، وأن ما هو سائد عن المؤسسة العسكرية، بأن دورها هو حماية النظام من المعترضين عليه، سيأخذ في ضوء ما حدث في مصر بين 25 يناير (كانون الثاني) و11 فبراير (شباط) 2011 طريقه إلى التعديل الجذري بعدما بات لهذين الشهرين علامتهما الفارقة مثل أشهر يوليو ويونيو ومايو وأكتوبر، أي بما معناه أنه عندما سيؤتى على ذكر الشهرين فسيقال إنهما شهرا التغيير المعجزة، مثلما يوليو شهر الثورة المعجزة، ويونيو شهر الهزيمة المفزعة، وأكتوبر شهر التحرير المعجزة، ومايو شهر الثورة المضحكة - المبكية. المهم وقد انتهى أمر الرئيس حسني مبارك يوم 11 فبراير إلى ما انتهى إليه أمر الجنرال ديغول عام 1968 حيث إن الجيش في البلدين (مصر وفرنسا) التزم الحياد الممزوج بالتعاطف. الحياد في فرنسا بين مظاهرات الطلاب والزعيم التاريخي الجنرال ديغول، وذلك بحماية الطلاب من الإيذاء الأمني، وفي الوقت نفسه تقدير الهالة التاريخية لرئيس البلاد شارل ديغول، بحيث يغادر طوعا إلى مسقط رأسه ويعيش في عزلة لا يجرؤ أحد على وصم سنواته وتاريخه العسكري بالفساد والذمة المالية الملوثة، وبذلك صانت فرنسا نفسها وبقي الجنرال ديغول محفورا في الذاكرة الفرنسية كما عبد الناصر في الذاكرة المصرية، وذلك لأنه رحل منزها عن الفساد المالي. والحياد في مصر بين مظاهرات الشباب التي لكل مشارك فيها أخ أو نسيب في القوات المسلحة، وهذا يعني أن يتفهم الأخ المتظاهر دور أخيه أو نسيبه العسكري، والرئيس الثلاثيني البقاء حسني مبارك وذلك بإبقاء الهالة الوطنية والدور العسكري للرئيس في معجزة التحرير يوم العبور (6 أكتوبر 1973) عندما حمى بالسرب الذي يقوده كطيار في الخامسة والأربعين من العمر العابرين القناة من أجل التحرير، فلا يتصرف المتظاهرون بما يوجب الرد عليهم ويبقى الموقف على هدوئه إلى حين ينهي الرئيس اختياراته بالتدرج آملا، وقد اقتنع بأنه لن يرشح نفسه لرئاسة سادسة ولن يتمسك بتوريث ابنه، أن تسلك الأمور الطريق التي لا يكون ختامها مأساويا. وإزاء عدم صبر الحشود المعترضة التي تتكاثر ويرمي الصديق الأميركي بالمزيد من الحطب على النار بغرض الإيحاء بأن له نصيبه في التغيير، بدأ تفكير مبارك بالخطوة الأكثر قساوة على النفس. وعلى هذا الأساس انتهت ولاية عمر سليمان كرئيس مكلف «الصلاحيات الرئاسية وفق الدستور» على نحو خلافة ابن المعتز التي دامت يوما وليلة. وسلم الرئيس مبارك أمره إلى الجهة الضامنة التي هي «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» مغادرا كما الجنرال ديغول مع فارق أن الأخير عزل نفسه في مسقط رأسه (كولومبي لي دواغليز)، أي «كولومبي الكنيستين» إلى أن رحل يوم 9 - 11 - 1970 (بعد أقل من سنتين من المظاهرات الطلابية التي هزت سلطانه)، في حين أن الرئيس مبارك غادر القصر إلى ضفاف البحر في شرم الشيخ التي اصطلح على اعتبارها عاصمته السياسية يقضي فيها أكثر من قضائه في القاهرة مستبدلا إياها بالإسكندرية، مستضيفا فيها القمم والمؤتمرات والاجتماعات الطارئة وأكثر اجتماعاته مع زواره المسؤولين الإسرائيليين الذين لم يغفروا له إصراره على عدم زيارة إسرائيل قبل أن يتم حل المشكلة الفلسطينية. أما لماذا الانتقال من القصر الرئاسي في مصر الجديدة إلى ضفاف البحر في شرم الشيخ وليس إلى «كفر مصيلحة» مسقط رأسه في محافظة المنوفية، فلأن الرجل الذي تعمد المجلس العسكري الوريث إنصافه من خلال عبارة تقديرية في «البيان الثالث»، يعز على نفسه العودة إلى ربعه، أو بلدياته، مهزوما فضلا عن أن وضعه الصحي يفرض عليه الخلود إلى أيام من الراحة والتأمل في الذي حدث، وفي ما كان عليه أن يفعله، كأن يغلق نهائيا قبل بدء ولايته الخامسة صفحة التوريث، ثم يكبح اجتياح رجال الأعمال لمصر الأرض ومصالح الناس والمصانع، ولكثير من الصدمات بعدما بدأ الداء يقتحم جسمه، بل وقبل ذلك أن يرى في الزهد بعد فقدانه حفيده الحامل اسمه علاجا للروح كفيلا بطرد «فيروس» البقاء في السلطة، وكأنما مثله الأعلى في ذلك الرئيس الفرنسي الأسبق العليل فرنسوا ميتران. ومع الأسف أنه لم يفعل هذا الذي نشير إليه مع أن الأكرم له كان أن يغادر الحكم طوعا ويشارك في صيغة حكم تعقب مغادرته، وبذلك يصبح بحكم دوره الوطني التحريري عام 1973 مرجعية لمن بعده يسدي النصح وينبه من المزالق. أما لماذا لم يفعل ولم يعلن وهو ينهي العلاج في ألمانيا في مارس (آذار) 2010 أنه في صدد التحضير لمؤتمر وطني مدني - عسكري - ديني يناقش المستقبل والخلافة من بعده لأن وضعه الصحي لا يسمح له بالبقاء على رأس السلطة، فلأن نفس الحاكم عندما يطول بقاؤه في السلطة تصبح مع الأسف أمّارة بالشراهة والنزوع إلى المزيد من التملك، وبذلك يتناسى القول المأثور الذي طلب الرئيس الشهيد رفيق الحريري حفره على بوابة «سراي البيارتة» لكي يكون عبرة لمن لا يعتبر وهو «ما دامت لغيرك حتى تدوم لك». وهكذا ضاع مجد التحرير وسط غبار الكلام المتزايد عن الفساد والإفساد والثروة المليارية، التي بالإضافة إلى أنها لم تلق نفيا أو توضيحا من الرئيس أو ابنه فإنها لا تشفي في حال صحة وجودها في مصارف سويسرا أو غيرها وجعا ولا تحول دون تراكم السنين. هكذا أيضا ونحن نتأمل في النهاية وفي نهايات سبقتها نتمنى أن تضع البداية غير الواضحة المعالم إلى حين اكتمال مشهد التغيير، مصر على سكة السلامة. نقلا عن الشرق الاوسط