انتهى ذلك العصر الذي تقتل فيه الأجهزة الأمنية معارضيها في وسط الشارع دون أن يعلم أحد، ففي زمان العولمة لم يعد إرهاب الدولة بصورته العلنية الفاضحة مقبولا أو منسجما مع القيم والمبادئ الدولية، وقد أدركت جميع الدول العربية التي شهدت تظاهرات احتجاجية هذه الحقيقية الجديدة، فأعلنت فتح التحقيقات في حوادث القتل التي قامت بها الأجهزة الأمنية أو ارتكبتها فرق (البلطجية) التابعين للأنظمة، ودعت هذه الدول المحتجين والمعارضين إلى طاولة الحوار، ولكن في ليبيا حدث العكس تماما، حيث لم تدع السلطة معارضيها إلى (حوار وطني)، بل توعدت المحتجين ب(رد صاعق) لتفتح فصلا دمويا مرعبا قد يكلفها ثمنا أغلى من كل توقعاتها. القتل ينتج القتل، ففي ثورتي تونس ومصر كانت حوادث العنف والقتل سببا في تعاظم شأن المظاهرات الاحتجاجية وتحولها إلى إعصار شعبي لا يصد ويرد، وحين وصل الإعصار إلى ذروته لم ينقذ زين العابدين بن علي قوله: (الآن فهمتكم)، ولم ينفع حسني مبارك قوله: (أعي تطلعات الشعب المصري)، فقد سبق السيف العذل كما تقول العرب فاقتلعت الريح العاتية من كان يظن نفسه جبلا لا تهزه الرياح، فأي إعصار ذلك الذي سيهب من بنغازي والبيضا ودرنة وغيرها من المدن الليبية، بعد أن تجاوزت فاتورة الدم في ليبيا حدود العقل بعد أيام قليلة من اندلاع شرارة المظاهرات الاحتجاجية؟!. ما يزيد الأمر قتامة أن ليبيا أغلقت الطريق أمام وسائل الإعلام العربية والعالمية وقطعت شبكة الإنترنت، ظنا منها أنها تستطيع حجب المعلومات في عصر أصبح فيه الإنسان قادرا على التصوير والبث الحي من خلال هاتفه الجوال. يمكن تلخيص ما فعلته السلطات الليبية اليوم أنها وضعت نفسها في قلب المشهد الإعلامي الدولي!.. حيث تظهر ليبيا في صورة مستودع معزول في الصحراء أقفلت أبوابه الحديدية بإحكام، وبدأت الدماء تسيل من تحت الأبواب، ومثل هذه الصورة تشكل تحديا كبيرا لوسائل الإعلام والاتصال الحديثة التي سوف تقبل هذا التحدي وتركز جهودها على تجاوز الحاجز الفولاذي وكشف الحقائق الدموية التي حاول النظام إخفاءها. الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى اليوم تقتل جماهير شعبها الليبي العربي الاشتراكي العظيم، لمجرد أنه طالب بحقوقه المشروعة، يا لها من مفارقة: الجماهيرية الأولى والأخيرة في هذا العالم لا تطيق رؤية الجماهير!، يفزعها أول تجمهر حقيقي لهم، فتطلق النار في كل الأرجاء، الجماهيرية تطلق النار على نفسها... ثمة (بوعزيزي) آخر يحرق نفسه، ولكنه هذه المرة ليس بائع خضار مظلوما!. [email protected] نقلا عن عكاظ