الانتفاضتان الشعبيتان في تونس ومصر، لم تفاجئا مطابخ القرار في واشنطن. ففي عدد مجلة «فورين أفيرز» الصادر في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أكثر من دراسة ومقال يدعو فيها واضعوها إلى ضرورة تغيير الأنظمة السلطوية الحاكمة في العالم العربي وقيام أنظمة أكثر ديمقراطية محلها. ولقد توصلت واشنطن إلى هذه القناعة لعدة أسباب، أهمها: 1) الانسجام مع دعوتها لنشر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في العالم. 2) تخوفها من أن يحدث في هذه الدول العربية «اللاديمقراطية» ما حدث في إيران، أي ثورة تؤول إلى استيلاء رجال الدين الإسلاميين المتطرفين على الحكم، وما يترتب على ذلك من انعكاسات سلبية على مصالحها وحربها على الإرهاب الدولي وعملية السلام في المنطقة. 3) قناعتها بأن قيام أنظمة ديمقراطية في الدول العربية يسهل عملية السلام مع إسرائيل. وهي نظرية نجح بعض المنظرين الإسرائيليين (شارنسكي، مثلا) في إقناع الإدارة الأميركية بها، وتحديدا الرئيس السابق بوش. من هنا كان هذا الموقف المذبذب الذي اتخذته واشنطن مما حدث في تونس ومصر، والمتأرجح بين تفهم مطالب الشعبين والتزام الحياد أمام ما جرى، والدعوة إلى إجراء التغيير، بعيدا عن العنف. ولم يختلف موقف دول الاتحاد الأوروبي والدول الكبرى في العالم، كثيرا عن الموقف الأميركي. فما يهمها، في نهاية الأمر، هو استقرار منطقة الشرق الأوسط – واستقرار مصر ركيزة له - وضمان مصالحها الحيوية (خاصة النفط)، ومحاربة الإرهاب والأنظمة أو الحركات الداعمة له. يضاف إلى ذلك – لا سيما بالنسبة للولايات المتحدة - سلامة إسرائيل. لقد كان لافتا موقف جماعة الإخوان المسلمين في مصر، المنفتح على الحوار والمعتدل قياسا بتطرف الشبان المتظاهرين في ميدان التحرير والمدن المصرية، المطالبين بالإطاحة الكاملة بالنظام ورموزه، وتميزه عن موقف مرشد الثورة الإيرانية وحزب الله وغيرها من الدعوات الدينية السياسية الراديكالية، التي تريد انضمام مصر إلى جبهة الممانعة والمقاومة. كما كان لافتا موقف الجيش المصري كوسيط بين الدولة، والشعب المطالب بالتغيير الذي يحمل إليه الحرية والكرامة والأمل. ولم يقم هذه المرة بالدور الذي قام به عام 1952، أي القبض على السلطة. بل آثر القيام بدور الوسيط في عملية نقل الحكم في مصر من الحالة التي أجمع الشعب على رفضها، إلى حالة جديدة أفضل. بعد مرور أسبوعين على اندلاع الانتفاضة الشعبية المصرية – أي في الوقت الذي نكتب فيه هذا المقال - لم تبن، بعد، كل معالم نظام الحكم المؤقت الذي سيعدل الدستور ويجري الانتخابات النيابية والرئاسية التي ستنقل مصر من النظام الناصري – الساداتي - المباركي إلى العهد الديمقراطي الموعود. كما أن المتظاهرين لم يخرجوا، بعد، من ميدان التحرير وشوارع المدن المصرية الأخرى. ولكن الاتجاه العام، دوليا وإقليميا ووطنيا مصريا، يميل إلى الخروج سلميا من الأزمة، بعد أن سلمت الحكومة المصرية المؤقتة بمعظم مطالب الإصلاحات الدستورية والسياسية الداخلية للجماهير والقوى السياسية المعارضة. أما بالنسبة لسياسة مصر العربية والإقليمية والدولية، والنظام الاقتصادي الاجتماعي للحكم الديمقراطي المقبل، لا سيما قضية السلام في المنطقة، فإنه من المبكر، الحديث عنها، اليوم، أي قبل نتائج الانتخابات العامة المقبلة. أي ثمانية إلى عشرة أشهر. إلا أنه من الراهن أن ثمة تغييرات باتت محتمة، كما ثمة ثوابت من الصعب على أي حكم مصري القفز من فوقها. لا سيما الاستراتيجية الدفاعية ومسألة الحرب والسلام مع إسرائيل والنظام الاقتصادي الحر، دون تعريض البلاد إلى أخطار أو انتكاسات أو خسائر. إن الانتفاضة الشعبية المصرية لم ولن تذهب سدى. فالحرية والكرامة وحكم القانون وتداول السلطة والمحاسبة والشفافية، هي في أساس الديمقراطية والحكم الصالح والعادل. وأيا كان شكل أو نوع الحكم المقبل في مصر، فإنه لن يستطيع سوى الالتزام بهذه الأسس والقيم. أما خياراته السياسية الكبرى، ودور مصر العربي والإقليمي، فلن يقررها إنسان واحد ولا حزب واحد حاكم، بل سيقررها نقاش حر في المجالس التمثيلية وفي وسائل الإعلام وبتوافق سياسي وطني عليها. يكسبها الشرعية. يبقى أن الديمقراطية، على الرغم من أنها النظام الأفضل للحكم، تتطلب مواطنين ديمقراطيي الثقافة والتفكير والسلوك لكي تطبق كما يجب، ولكي تمكن الشعب من حسن اختيار حكامه وحماية حقوقه وتحقيق أمانيه. وإلا فإنها تتحول إلى سلاح ذي حدين وباب مفتوح على الفوضى والفتنة. لا سيما في منطقة تعصف فيها الرياح من كل الجهات. وبعد أن دخل العالم عصر «انفلات الإعلام والاتصالات»، من فضائيات وإنترنت وهواتف جوالة. وما قامت به «قناة الجزيرة» من دور تحريضي على الأنظمة العربية الحاكمة ومن «تغطية تشجيعية» للانتفاضتين التونسية والمصرية، بات حديث العالم، وتأثيره أقوى من تأثير وسائل الإعلام الوطنية الأدرى بأحوال أوطانها. إن العالم بأسره وكل إنسان عربي وكل مسلم يتمنى نجاح مصر، شعبا وقادة، في الخروج من هذه المحنة بسلام وإقامة نظام ديمقراطي عادل وفعال يعيد لمصر دورها الرائد في العالم العربي. ويقطع الطريق على من يريد تخريب وتفتيت الأمة العربية، تمهيدا لبسط سيطرته.