ينبغي أن تعلم، أن الإنسان إذا وُجد، فإنه بمجرد وجوده، يكون قد خُلق للسعادة الأبدية في كل لحظة تمر عليه. الإنسان لم يخلق للأحزان، وإنما خُلق للسعادة والفرح، منذ لحظة ميلاده، فسعادته لا تنتهي بل هي خالدة لا تفنى ولا تنقطع. فكلنا قد خلقنا الله للسعادة الأبدية إلا من أبى. والإباء نوعان: الأول يكمن في رفض الإيمان، فهذا من حرم نفسه من السعادة الأخروية حتماً، وقد يكون ممن خسر الدنيا والآخرة. والثاني: من آمن بالدين لكنه لم يعرف كيف يعيش سعيداً في كل لحظة تمر عليه في هذه الدنيا، فصار بذلك من السعداء في الآخرة لكنه عاش حزيناً، محروماً من السعادة في الدنيا. ولعل المتديّن الحزين في حياته هو أولى الناس بهذا الخطاب، والرسالة موجهة له أكثر من غيره. لقد خلقنا لسعادة الدارين. هذا ما دل عليه الإسلام. لكن الأوهام تشوش رؤية البشر أحياناً فلا يبصرون هذه الحقيقة الواضحة. السعادة باختصار هي أن نكون مع الله وفي حفظه بصورة متصلة. وإذا كانت السعادة هي أسمى غاية للإنسان؛ فإنه لا بد من معرفتها معرفة دقيقة تمكننا من الوصول إلى الدرجة العليا القصوى منها. فمن الناس من تتحقق لهم درجة عالية من السعادة بلا معرفة. وهذا أقل ما يقال عنه إنه نقص ينبغي إتمامه، فالوعي بالسعادة هو مزيد منها. فالسعادة، وكذا التعاسة، كلاهما حالة ذهنية منفكة عن الأشياء التي في الخارج من الملاذّ الحسية التي يعتقد كثير من الناس أنها تجلب السعادة، ككثرة المال؛ إذ قد يكون الإنسان في قمة التعاسة مع كثرة ماله بسبب عين ذهنه التي يرى بها الأشياء، وبسبب رؤيته للكون والحياة وما بعد الحياة. السعادة قضية كبيرة تحتاج للمعرفة العميقة التي تمكن من الوصول إليها وهي بلا شك تستحق ذلك البحث والتدقيق والتمحيص. إن جعل الإنسان قضية السعادة نصب عينيه بصورة دائمة هو أمر محمود؛ لأن التعرف عليها كلما زاد، كلما صار الإنسان أعرف بنفسه، وبالأشياء التي يجب عليه أن يفعلها والأشياء التي يجب أن يتحاشاها؛ ليحصل له مزيد من التحقق. إن تحقيق السعادة مرتبط بأنشطة ذهنية وأخرى بدنية وبمقادير معتدلة ومنضبطة. هذه المقادير إذا اجتمعت فقد اكتملت وصفة السعادة. السعادة فن؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يحرص على كسب هذا الفن وتعلّمه وإتقانه. إن السعادة القصوى تكون ممكنة إذا نظرنا إليها كمهنة أو حرفة، فصاحب المهنة لكثرة مزاولته لها قد أصبح ماهراً فيها متقناً لها مع مرور الزمن، ككل إنسان داوم شطراً طويلاً من صباحاته وهو يمارس نفس العمل، كالنجّار والبنّاء والمهندس، أعني المهرة في صنائعهم. والسعادة كذلك ينبغي أن تعامل كمهنة، وهي جديرة بهذا الاجتهاد لتحصيلها.