يتساءل كثير من المتابعين في شبكات التواصل الاجتماعي عن الغاية الحقيقية من حضور الأكاديميين في هذه الشبكات، وتحديدا موقع «تويتر»، خاصة أن بعضا منهم يطرح آراء تحدث ردات فعل مختلفة ومتباينة، تصل أحيانا إلى التصنيف، والإقصاء، والاستعداء، وربما التجييش. ويحمل بعض المغردين أساتذة الجامعات مسؤولية طرحهم أفكارا تساهم في تفكك المجتمع، خاصة حين يتعلق الأمر بوحدة الوطن وسلامة أبنائه، وهناك من يرى أن بعض أساتذة الجامعات يعمدون إلى إثارة خصومهم وتجييش المتابعين، بفعل آراء عادة ما تقابل برفض قاطع أو دفاع مستميت من قبل المختلفين معها. يلحظ متابعون أن أكاديميين يقفون خلف «هاشتاقات»، أو كانوا سبباً في إنشائها، بتغريدات مستفزة، ويقولون إنهم يسعون من خلالها لإثارة المجتمع، وتمزيق وحدته. وتظهر ردود الفعل في «تويتر»، أن هناك من ينظر لتفاعل الأكاديمي في هذا الموقع على أنّه نوع من التواصل الاجتماعي المحمود، إلا أن ثمة من ينظر إليه على أنه نوع من «تعويض الخسائر» في قاعات الدرس، كما تظهر بعض الردود مطالب لمغردين بإيقاف أستاذ جامعي بحجة أنه يسعى لتمزيق المجتمع، وتفتيت وحدته الوطنية. انعكاس أوسع توفيق السيف فهل أصبح الأكاديميون عبئا على المجتمع عبر تجسيدهم النزاعات في «تويتر»؟، الكاتب الدكتور توفيق السيف يجيب عن هذا السؤال: «الجدالات والنزاعات في «تويتر» هي انعكاسات أوسع في المجتمع، أنا لا أرى في هذه النزاعات مشكلة كبيرة. أعتقد أنّ المجتمع السعودي يعيد اكتشاف نفسه. في العشر سنوات الأخيرة حدثت نقلة مهمة في داخل المجتمع السعودي، فقد انتقل من حالة الركون، إلى المألوف والسائد، وذهب إلى البحث عن هويات جديدة، البحث عن أفكار جديدة، البحث عن تطلعات مختلفة عما اعتدنا عليه. المجتمع السعودي اليوم يمرّ بمرحلة انتقال على مستوى الثقافة العامة، بما فيهم الجمهور العريض، وليس فقط من يسمون بالمثقفين. هذا الظرف الانتقالي فيه سمات معروفة ومدروسة في علم الاجتماع، إحدى هذه السمات المعروفة سيولة القيم وسيولة الأفكار. فهناك أفكار كثيرة جداً منها ما ينطوي على تشكيك أو رفض لقيم مستقرة. بعض هذه القيم صحيحة وبعضها خاطئة، لكنّ الواضح للعيان أنّ جميع هذه القيم والتقاليد تتعرض للتشكيك وهذه السيولة إحدى تمظهراتها». مراحل انتقالية ويضيف السيف: «بالنسبة لتجسيد النزاعات، بمعنى أن كل إنسان يعبّر عن آرائه ولا يهتم بالطرف الآخر، فيحاول أن يضع ذاته في المقدمة، ذاته المتمثلة في شخصه أو عائلته أو قبيلته أو طائفته أو بلده أو حزبه إلى آخره، فهذا يعد تجسيداً لهذه النزاعات. التعبير عن الذات بأي صورة من الصور هو من سمات المراحل الانتقالية. التعبير عن الأفكار وقول الآراء ورفض الأفكار هو من سمات هذه المراحل، وهي تؤدي إلى سيولة في الأفكار والقيم والتقاليد، لكن بعد مرور سنوات، بحسب الظروف الاجتماعية، والقنوات التي تستحدثها الدولة، أو المجتمع، لاحتواء هذا التغيير سيحدث الانتقال، فبعد مرور فترة قد تطول أو تقصر، يبدأ هذا الظرف بالتفكّك بسبب الفرز الذي ينشأ، لأن كل جماعة أو ناس يبدأون في معرفة حجمهم، ويعرفون من معهم ومن ضدهم. ويعرفون الحدود التي يستطيعون التعبير من خلالها عن أفكارهم والحدود التي يتوقفون عندها». ويتابع قائلا: «هناك ينشأ ما يمكن وصفه بالإجماع البديل، أو الظرف الاجتماعي البديل، وهو انتقال أكثر استقراراً من الظرف الانتقالي. وسنصل إلى هذا الظرف بعد سنوات، إلا أنني، وكما سبق أن دعوت، أطالب بالإفراج عن المؤسسات الأهلية، لأنها من الأشياء الضرورية في التسريع بالانتقال من الظرف الانتقالي إلى الظرف البديل». وسيط معقول ويرى السيف، بشكل مبدئي، أن تفاعل الأكاديميين في شبكات التواصل الاجتماعي، يعزز أولا مفهوم التواصل الاجتماعي، الذي يتواصل فيه الإنسان مع الناس، لافتا إلى أن هناك كثيرا من الأفكار والآراء، لا يمكن التعبير عنها في القنوات العامة، أو ليست كبيرة ومهمة يمكن إدراجها في قنوات عامة، أو أنها أفكار لا تقبل أن تنتظر، و«تويتر» يمثل وسيطا معقولا بين الكاتب والناس لأغراض اجتماعية، أو ثقافية، أو للتعبير عن آراء، وما إلى ذلك. لكنه يعتقد أن «تويتر» لا يشكل بديلا عن قنوات نشر الثقافة والفكرة المتعارف عليها مثل الصحيفة والإذاعة والتليفزيون والكتاب وما إلى ذلك، موضحا أن «تويتر» وسيلة لنقل الفكرة السريعة، وليس وسيلة للتثقيف، رغم تأكيده أنه يمثل وسيلة تساعد في إثارة الوعي، لكنها ليست مؤثرة في صناعة وعي مستقر. الأكاديمي.. إنسان محمد الهرفي أما الكاتب الدكتور محمد الهرفي، فيشدد على أن الأكاديمي شأنه في «تويتر»، شأن الآخرين المشاركين في هذا الموقع، لنقل أفكارهم وأحاسيسهم ومشاعرهم دون خوف أو قيود، لأنّه يستطيع، مهما كان تخصصه أو اتجاهه الفكري، أن يعبر عن نفسه، وبأسلوبه الذي يريحه، دون أي قيود، خاصة إذا كان يستخدم اسما رمزيا، «وأعتقد أن بعض الأكاديميين يفعلون ذلك أحيانا ولأسباب متعددة». ويعتقد الهرفي أن الأكاديميين يلجأون إلى شبكات التواصل الاجتماعي لأنهم لا يجدون وسيلة أخرى تستوعبهم؛ مشيرا إلى أن لمعظم الصحف مواصفات خاصة فيمن تسمح لهم بالكتابة، فضلا عن أنها تضع قيودا كثيرة على كتابها، فتخنقهم في المسموح والممنوع، وأن كثيرا منهم لا يحتملون كل ذلك، فيجدون في هذه الشبكات بغيتهم، وأهمها «تويتر» حاليا. ويضيف قائلا: أظن أن الجامعات كلها لا تعطي الفرصة لأساتذتها في التعبير عن آرائهم فيما يجري حولهم من أحداث جسام، وهذا دافع آخر لهم للبحث عن فضاءات أخرى يتنفسون من خلالها، ووجدوا ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي. طموحات فردية أحمد التيهاني فيما يرى الكاتب والإعلامي أحمد التيهاني، أن الأكاديميين كغيرهم، وليست هناك ميزة تجعلهم فوق الآخرين؛ فجلهم باحثون أنجزوا أعمالا علمية في مواضيع محددة، وحصلوا بها على الدرجة العلمية التي تؤهلهم للتدريس في الجامعات والبحث في مراكزها العلمية. ويقول: لذا ليس من المنطقي أن نطالبهم بأدوار مجتمعية أو تنويرية أو ثقافية تفوق ما يستطيعونه، أو تكون أكبر مما يدركونه، إذ ليس كل أكاديمي مثقف، والعكس صحيح. ويضيف: «بعض أصحاب حرف الدال، تورطوا في هذا الحرف، فلم ينالوا القيمة الاجتماعية والثقافية التي كانوا يحلمون بها، ولذا ذهبوا يبحثون عنها ذات اليمين وذات الشمال غير آبهين، دون قصد منهم، ببعض القواعد الأخلاقية، والمبادئ العامة التي يتحتم تقديمها على الطموحات الفردية الضيقة». تقاليد جامعية وعن دور أساتذة الجامعات الناشطين في «تويتر»، يشدد السيف على أن تأثيرهم «ليس فقط في الاتجاه السلبي، بل حتى في الاتجاه الإيجابي». ويقول: «للأسف في بلدنا التقاليد الأكاديمية ما زالت تنظر إلى الطالب كمتلق لمنهج محدد، ينتظر من الأستاذ أن يقدم مادة معينة حتى يقدموا عليها اختبارا في نهاية العام. ولو تحدث لهم في قضايا أخرى لانتقد!»، موضحا أنه «من الطبيعي في هذه الحالة، أن تجد الأساتذة الجامعيين يبحثون عن وسائل موازية للتواصل مع المجتمع أو مع طلابهم»، ومشيرا إلى أنه لا ينظر «للأساتذة الجامعيين كبشر مختلفين، كل شخص لدينا هو صورة من المجتمع الذي يعيش فيه». ويضيف: أعرف، على الأقل في الغرب، أن للأساتذة حرية أوسع، بحيث تلقى مثلا أستاذا في الفيزياء، يتحدث مع طلابه عن السياسة أو الدين أو الأدب أو غير ذلك، ليس باعتبار ذلك جزءا من المادة، لكنه يعتبره جزءا من عملية تقويم الطالب وتقويم ثقافته. وهذا يعود إلى نظرة دول العالم المتقدمة للعملية التعليمية، باعتبارها عملية ارتقاء بالطالب من متلق بحت إلى متفاعل متفائل ومنتج فيما بعد. ويوضح السيف أن «تويتر» يجمع المتناقضات، مشيرا إلى أن فيه حوارا راقيا وآخر هابطا، ويقول: «شخصياً تعرفت على عدد كبير من خلال تويتر، لأن أفكارهم مثيرة للاهتمام. وجدت أن المملكة فيها طاقات هائلة، عدد المثقفين بالآلاف وليس بالمئات. لم تكن هذه الأعداد ظاهرة قبل شبكات التواصل والنت. لذلك أشعر أن الحوارات التي جرت مع كثير ممن تعرفت عليهم كانت بوجود هذا الوسيط الجيد وهو الحوارات الجادة. إلى جانب ذلك هنالك حوارات سخيفة، ولكن هذه طبيعة الحياة». نسيج متعدد ولا يتفق الهرفي مع من يقول أن الأكاديميين الناشطين في «تويتر» يكتبون في القضايا التي تفرق المجتمع أكثر من كتابتهم فيما يوحد الكلمة ويجمع الشتات، مؤكدا أن هذا لا يعني «أنهم لا يفعلون ذلك مطلقا، ولكنني أتحدث عن الغالبية منهم، خاصة أنه لايوجد تعريف دقيق بين ماهو مفرق أو موحد، فما أعتبره أنا موحدا، قد ينظر إليه آخر على أنه مفرق، وفي رأيي أن أسلوب الكتابة والمعالجة الفكرية هي التي تجعلنا نحدد طبيعة الكاتب من حيث كونه داعية وحدة أو تمزيق للمجتمع». ويردف قائلا: «لكي تتضح الصورة أكثر، علي أن أقول: إننا جميعا نعرف أن مجتمعنا يضم أخلاطا فكرية ومذهبية متعددة، ولأن الأكاديميين جزء من هذا المجتمع، فهم بالتالي جزء من هذا النسيج المتعدد والمختلف في رؤاه وتوجهاته الفكرية، وبالتالي لابد أن يعبروا عن آرائهم ومواقفهم تجاه من يخالفهم الرأي، وهذا حق مشروع من وجهة نظري، ولا يشكل أي تهديد لوحدة المجتمع، بشرط أن يكون التعبير عن الاختلاف علمياً صادقاً بعيداً عن الأهواء الشخصية، وهذا ما يفرضه على الأكاديميين تعليمهم وأخلاقهم ووطنيتهم». استثناءات ويستدرك الهرفي: «يحدث أحيانا خروج على الأصل حيث يبدو التحزب والإقصاء والكذب والهجوم العنيف على الطرف الآخر واضحاً وبشكل مقيت لا يليق بأي أحد، فضلا عن أساتذة الجامعات والمثقفين، فهذا يصف ذاك، كذبا، بأنه جامي أو إخواني أو علماني أو ليبرالي، وكل يدعو لإقصاء الآخر ويصفه بأبشع الصفات، فإذا أضفنا ما يحدث أحيانا بين السنة والشيعة من تراشق مقيت بالألفاظ، أدركنا أن هذا النوع من العمل هو استخدام سيئ ل «تويتر»، وهو غير لائق، ليس للأكاديميين وحدهم، بل لكل طبقات المجتمع». أكاديمية «حزبية» أما التيهاني، فيشير إلى أن الأقوال التي تحمل الأكاديميين دورا في الإثارة، عامة، لا تحدد توجهات، ولا تعترف بالتباين، مبينا «أن الأكاديميين الذين يكثرون في هذا النوع من الطرح، هم الحزبيون ذوو الميول والانتماءات السياسية، وأخص منهم المنتمين إلى حركة «الإخوان المسلمين»، إذ يبدو -والله أعلم- أن التصنيف والتشتيت والتفرقة قواعد أصيلة في أدبياتهم، بحيث يكون كل موصوم بانتماء أو اتجاه غير اتجاههم منبوذا وضالا، لأن مثل التشتيت القائم على التصنيف قد يساهم في تحقيق أهداف استراتيجية مأمولة، ومن أجلها يمكن الإقدام على أي شيء، وليس هذا مقصورا على الأكاديميين فقط»، مختتما قوله إن «الفكرة ذاتها تنسحب على استقطاب الحشود من خلال مواقع التواصل الاجتماعي؛ ذلك أنه لا يسعى إلى بناء القواعد الجماهيرية إلا المنتمون حزبياً، لأنه لا قيمة ل «الحركة» دون أتباع ومؤيدين يمنحونها القوة وأسباب الضغط، ويخلقون وهما عاما أن «الحركة» هي الخيار الشعبي».