الكلمة الجليلة لا تقال إلا وهي تحت قيد الشطب، في إشارة إلى عجز لغوي متأصل عن احتواء المعنى. الكلمة سور يحيط المعنى، كما أن الإطار والسطح والقراءة الجامدة سياج فولاذي وتعريف متخشب للوحة أو النص. ليس لنا إلا أن نشطب الكلمة أو نذيلها بهامش نؤكد من خلاله على حيرتنا وعجزنا المزمن عن الإدراك. علينا أن نخون اللغة حتى نخلص أكثر للمعنى.. اللغة بنت المنطق، بنت التعريفات، إنها تشي دائما باستقرارها الدلالي، وكأن المعنى قالب حجري لا يتغير. الوفاء للمعنى انسحاب من التعريف، وإذاً من التصنيف. حين نضع الكلمة أو نقولها وهي قيد الشطب فإننا نؤكد سيولة المعنى/ التعدد الفوضوي/ التحولات المارثونية/ كسر الانتماء/ مغادرة الوجه «البورتريه» من اللوحة والقفز على الإطار، في مباغتة غير قابلة للتخمين.. مباغتة تقلب الأدوار، وكأن اللوحة تنتج ذاتها أو تنتج الفنان. الشطب استراتيجية نصية معروفة، لجأ إليها الفيلسوف الفرنسي دريدا كدلالة أو أثر «حتى نتابع دريدا بدقة» لغياب الحضور أو الحضور الغائب، وأشار إليها أيضا هايدغر، الفيلسوف الألماني الذي استخدمها للإشارة إلى انشطار تتصف به اللغة للتعبير عن «الحضور الذي لا جدال فيه».. الشطب إشارة إلى لغة عاجزة، لغة ناقصة دوما، لغة منشطرة بين قوالب إسمنتية مستقرة وفراشات هشة تتبخر، لغة موزعة بين لفظ ومعنى، بين دال نهائي ومدلول لا نهائي. ولكن السؤال المطروح: كيف نتحدث إذاً؟ هل نشطب كل الكلمات وبالتالي لا نقول شيئا؟ هل نتخلى عن التعريف والتصنيف والهوية؟ أليست هي الفوضى؟ الشق اللغوي هنا، الذي هو شطب الكلمات لذاتها، يمنح اللغة/ المعرفة حصانة من الوثوق الفج، لكي تتعلم قول الأشياء على نحو الاحتمال، أن نصف ونصنف بحذر، أن نستخدم التعريفات النسبية/ الاحتمالية ونحذف من قاموسنا كل تعريف خشبي مطلق. الدرس هنا دعوة للحذر، كما للتأجيل والإرجاء: تأجيل مستمر ومتواصل للأحكام التصنيفية. أن نفكر إذاً على نحو احتمالي، تلك هي القاعدة التبشيرية لفلسفة الشطب والتشقيق اللغوي. الوصية الأساس هي ألا نصنف أحدا، أما إذا كانت ثمة ضرورة، فليكن تصنيفا متحولا.. تصنيفا احتماليا. نحن نصنف الأشياء لأننا نريد أن نضبطها، أن نمارس الوصاية عليها، التصنيف حيلة لتسهيل الرقابة والسيطرة على الأشياء/ الدواجن/ البقر/ العبيد، إلا أن الكائن الحر/ المعنى المشاكس والهوائي أكثر من أن يصنف إلا في حدود تكشف جهلا أو زيفا أو خيانة لما هو حقيقي، ولنتذكر أن الحقيقة لا تكشف عن ذاتها مرتين في صورة واحدة أو تعريف واحد أو صنف واحد. الحقيقة هنا مزاجية هوائية متقلبة، عصية عن التنبؤ والتخمين، الحقيقة المتعلقة بالكائن البشري، وتحديدا الفرد، هي من السعة بحيث تبدو كل محاولة تصنيفية عبثا في عبث. تشقيق النص إلغاء للتاريخ وتفتيت للشخصية، أو تحريرها من النموذج، «النموذج قيد -يقول أدونيس- أن نحيا حقا، أن نبدع حقا هو أن نلغي النمذجة» أن نشطب الانتماءات والتصنيفات والتعريفات، أن نحطم وضعية الشيء بالتحول إلى روح.. إلى هواء منعش، أن نتمرد على محاولات القولبة والتأطير والتنميط الكلياني الشمولي لاستعادة الفردوس الجزئي/ الفردي/ الذاتي الخاص. ثمة أكذوبة عمرها عمر التاريخ تتحدث عن إنسان بالمعنى الكلي، عن «لوغوس» عابر للأشخاص والثقافات والتاريخ، عن تعميم مجحف يقص الزوائد أو يشد الأطراف على طريقة «سرير بروكرست» ، الحقيقي هو الإنسان/ الفرد وحده، ولأن الإنسان «ليس سوى سلسلة مشاريع.. كائن يبدع ذاته بلا توقف» فمن شأنه أن يتخارج.. أن يصير خارج نفسه دائما، بلا نموذج مسبق. الإنسان صنف مخرب.. صنف لا ينفك عن التمرد والخروج وتحطيم ذاته. «كل إنسان هو الإنسان بكليته» تلك هي الكلمة المركزية في كتاب «الكلمات» لسارتر، في عبارة تنجز ببراعة قاعدة الشطب، ليس لحساب الماورائيات والمفاهيم المجردة ولكن –هذه المرة- لأنسنتها، لكي تستعاد وتمتزج بالفرد نفسه، اللانهائي يصبح ضيفا على النهائي ويصير داخله، سارتر يحث كل فرد على الاعتداد بالذات ومغادرة قطيع الانتماءات والتعريفات السهلة، هنا دعوة للعبقرية، كل العباقرة، حتى الذين صنعوا المذاهب والمدارس والتاريخ، هم فوق التصنيف، العبقري كائن متحول.. مراوغ.. شخصية هوائية ومتعددة ومتنوعة مثل أوركسترا. يشق على الفنان/ المبدع/ الفرد العبقري أن يصنف، إنه أكثر من فوتوجرافي أو إخباري يعكف على تسجيل تلقائي لمجريات العالم والروح -أي شخصيته الخاصة المستلهمة من هوية قطيعية جماعية. الفرد لا يصور العالم ولا يتلقى المعنى سلبيا، بل يشارك فيه، يساهم في تفتيته وتشطيره. الفرد/ خارج التصنيف، عبقري متجدد، يبدع فنه كما يعيش حياته. يمتعض من التصنيف ويتحاشى الانتماء والتحزب؛ لأن في ذلك تقييداً ونفياً لحريته، حرية تقلبه وتحوله وسيادة مصيره. ينقل عن بارت أنه كان يتنقل دائما بين النظريات، الانتقال الدائم من موقف نظري إلى آخر ضرورة عند بارت.. لأن التحول شيمة الكبار، والذوات التي تسبق ذاتها وشأنها دائما تحطيم الأصنام وتجاوز التصنيفات الفكرية: الليبرالي يتجاوز ليبراليته، والماركسي ماركسيته، والإسلامي إسلاميته.. إلخ. الفرد هذا هو رجل التنوع، هو ماركس الذي ينفي ماركسيته: «كل ما أعرفه هو أنني لست ماركسياً» إن عظماء التاريخ أعداء الأيديولوجيا، كل عظيم وملهم وعبقري يتبرأ من أتباعه. قاعدة الشطب والخروج من التصنيفات الفكرية تنتج أفرادا على مستوى عباقرة، فإذا كان بارت يقفز مثل مهرج بين المواقف النظرية وحتى الفكرية، وإذا كان مؤسس الماركسية ليس ماركسيا، والليبرالي ليس ليبراليا والإسلامي ليس إسلاميا، فإن الفنان/ المبدع/ الحي هو الذي يصغي إلى الهواء ويتكلم الموسيقى، هو رجل دين نفسه/ حزب لوحده/ انتماء لوحده/ هوية تشطب ذاتها باستمرار.