عادة ما يكون الرأي العام مؤثرا وفاعلا في الدول ذات النظم الديمقراطية؛ إذ إنه يشكل أحد أهم دعائم الديمقراطية وأحد أبرز الدلائل عليها بحيث يساهم في تحديد مسار الخطط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية الحكومية عبر حجبه الثقة عن الأداء الحكومي أو منحه لها أو الاحتجاج أو الاعتراض أو التصويت، وما إلى ذلك من الممارسات الديمقراطية الطبيعية، ولكن، ولكي تصل الشعوب إلى هذه المرحلة من تشكيل رأي عام ضاغط يبدو أن عليها عبور مراحل عديدة من الحضارات ثم من مختلف أنواع النظم وربما الثورات والحروب الأهلية قبل أن تصل إلى مرحلة النظام الديمقراطي، الذي يشكل أرضية مناسبة لخلق الرأي العام الذي يحتاج إلى مناخ واسع من الحريات الفردية كحرية العبادة والتعبير عن الرأي، إضافة إلى الحريات العامة كحرية العمل السياسي والحزبي والمؤسسات المدنية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، بحيث لا يعد بمقدور النظم الحاكمة أن تشكل رأيا عاما واسعا يشبهها ويساعدها على فرض ما يناسب وجودها ومصالحها وهذا ما يخبر عنه التاريخ البشري منذ بدء التدوين وحتى الآن في سياق تطوره وتقدمه، أما في النظم الشمولية والعسكرية والأمنية فالأمر مختلف تماما؛ إذ لا يوجد ما يمكن أن نطلق عليه اسم (رأي عام) بل توجد جماهير تشتغل الأنظمة على تدجينها بسياسات ممنهجة كالتفقير والتجهيل وربطها بالغيبي المقدس، والشغل على التحالف بين السياسة والدين بحيث يتمكن الاثنان من التحكم بتوجهات الجماهير، والسيطرة على وسائل الإعلام التي يمكنها بسهولة أن تلعب دورا تحريضيا مؤثرا، وإلهاء الجماهير بقضية كبيرة ما: عدو موجود أصلا أو عدو مختلق ومفتعل، وطرح شعارات كبرى مفرغة من محتواها كالأمة الكبرى أو الشعب العظيم، وما إلى ذلك من مصطلحات اتضح أن لها مفعول المخدر أو المنوم المغناطيسي لهذه الشعوب، بحيث تصبح ذات رأي واحد معمم على الجميع وإرادتها مرهونة بإرادة النظام الحاكم ورغباتها تصب مباشرة في مصلحة هذا النظام بما يضمن بقاءه وسيطرته أطول وقت ممكن، وهذه مرحلة من المراحل التي تمر بها الشعوب عادة قبل أن تصل إلى النظام الديمقراطي المرتجى عبر التغيير الذي لا يأتي عادة مع أنظمة كهذه سلميا وسلسا وسريعا، بل يبدأ باحتجاجات تطلقها مجموعات خرجت عن سرب الرأي الواحد لأسباب محرضة آنية لكن تعود في جذرها إلى رفض الاستبداد والتوق للحرية والرغبة في التغيير، ثم تمتد هذه الاحتجاجات إلى رقعة اجتماعية أوسع إن كان ثمة بيئة مهيأة لها، ثم تتحول إلى ثورة قد تقابل بعنف تتقنه الأنظمة الشمولية، وقد تجهض هذه الثورة عبر استثمارها من قبل نفس النظام العميق نفسه بعد إحداث تغيير شكلاني به، أو قد تنتج ثورات ارتدادية متعددة ومتواترة، أو قد تكون ثورة تأخذ شكلا آخر له طابع عنفي ودموي أكثر، حسب وضع المجتمع الذي تقوم به الثورة، لكن خلال كل هذا الحراك المتشكل والمختلف يطرأ تغيير تدريجي وبطيء على مفهوم الجماهير، وتحوله إلى رأي عام قد تستغله هذه الأنظمة لصالح أدائها في قمع الثورة والتغيير عبر خلقها بديلاً يظهر كما لو كان نقيضها ومعارضا لها لكنه في حقيقته حليف لها تتمكن من خلاله من إعادة السيطرة على الجماهير وحرف انحيازها للتغير نحو الخوف من البديل المطروح المجهول وبالتالي التمسك بالقديم الموجود والمكشوف، وبالمقابل يحاول هذا البديل جذب الجماهير إليه وخلق رأي عام مساند له سواء بالترهيب والترويع أو بالاعتماد على الغيبي المقدس، وبينما ينشغل الاثنان (النظام وبديله) في قمع الثورة أو استثمارها تبدأ معهما ماكينات إعلام ضخمة تتبع ماليا أو عقائديا لهما بحملات تحريضية مكثفة تشتغل على تغيير ما بدأ يختلف من الوعي الجمعي للجماهير ويخرج عن ضفتيه؛ ليشكل رأيا عاما حقيقيا كي تعيده إلى النسق القديم ذاته، نسق الجماهير، والتحكم برغباتها وإرادتها لصالح الاستبداد بكل أشكاله، ولعل ما حدث ويحدث حتى الآن في الدول العربية التي خرجت (جماهيرها) ضد الأنظمة الحاكمة، الشمولية والعسكرية والأمنية والدينية، لهو خير دليل على الفرق بين الرأي العام الحقيقي والرأي العام المصنّع لخدمة الاستبداد الساعي بكل ما يملكه من عنف وقوة وسلطة للقضاء التام على هذا الغليان الشعبي الاستثنائي؛ إذ تدرك أنظمة الاستبداد هذه أن المسار العام لهذه الثورات سيؤدي حتما إلى التغيير وإلى الديمقراطية، قد يطول أوان ذلك، وقد يتأخر، وقد يمر بعقبات ومآزق خطرة، لكن من المؤكد أن لا شيء سيوقف حركة الشعوب هذه، وهذا ما يعرفه الاستبداد جيدا؛ لهذا يحاول عرقلته أو تأخير حدوثه بكل الوسائل الممكنة والمتاحة له، وما أكثرها.