في العقدين الماضيين احتلت قيادة المرأة السيارة مساحة كبيرة في الجدل الثقافي والفكري السعودي، وهذا الجدل يبدأ من تساؤل كبير جداً عن أولويات حقوق المرأة، وهل القيادة مطلب مهم عاجل لعامة النساء اللواتي يطالبن بتعليم جيد ورعاية طبية مقبولة ومسكن لائق ورواتب شهرية مقبولة حتى يتفرغن لأداء أشغالهن المنزلية وتربية ومتابعة الأبناء، لأنه لا قدرة لهن على استقدام الخدم، أم أن القيادة مطلب «برجوازي» لطبقة معينة ثرية قادرة على شراء سيارة والتفاخر بها، طبقة تتلقى التعليم في أفخم المدارس وتعالج في أرقى المستشفيات الأهلية وتسكن القصور والفلل الواسعة المليئة بالخدم والمربيات، فخلت هذه الطبقة المترفة من هموم الحياة الأساسية وانتقلت للهموم التكميلية. الملاحظ فعلاً أن حقوق المرأة في السعودية مقلوبة الهرم؛ تبدأ بمطالب فئة قليلة ثرية وتتغافل عن المطالب الأهم للشريحة الأعرض، بل إن حقوق المرأة كلها مقدمة على حقوق الطفل الذي أظنه مظلوماً أكثر منها ولا يُلتفَت لحقوقه كما يلتفت لها. تساؤل آخر، حول كون المطالبة بقيادة المرأة في هذا الوقت معاكسة للتوجه العالمي نحو تقليل الاعتماد على السيارات والتوجه نحو بدائل أخرى، منها النقل العام والدراجات المنتشرة بشكل كبير في أوروبا الآن. وتساؤل ثالث، عن تجربة قيادة المرأة في المجتمعات حولنا، وهل أثمرت تقليل وجود السائق الأجنبي؟، أو انعدام الخلوة المحرمة كما تردد الفئة المطالبة بذلك؟. كان رد العلماء وطلبة العلم وغيرهم على تلك المطالبات ببيان أن قيادة المرأة السيارة تفضي إلى مفاسد عظيمة أكثر من المصالح المرجوة، وبناء على ذلك فهي محرمة سداً للذرائع؛ أي لما تعلق بها لا لذاتها، وبناء على ذلك فالخلاف بين الطرفين متعلق بحساب المصالح والمفاسد ورجحان إحدى الكفتين. وحساب المصالح والمفاسد في هذه القضية المتشعبة يحتاج إلى دراسة متأنية وبحث جاد ومسح إحصائي لجوانبها وآثارها الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والمرورية... إلخ، مع اعتبار قضايا أخرى لها علاقة قوية بهذا الأمر؛ كأثر وجود السائق الأجنبي، وتزايد معدل التحرش الجنسي في الشوارع، والتهاون الشديد بالأنظمة المرورية، ومصائب سيارات الأجرة، وخطط النقل العام داخل المدن كالقطارت، والزحام الشديد في المدن الكبرى وغير ذلك. وتكون هذه الدراسة تماماً كما يسمى ب «دراسة الجدوى» التي تقوم بها الشركات لمشاريعها الكبرى منفقة كثيراً من الجهد والوقت والمال في سبيل ذلك. وبعد أن تتكامل الرؤية وتتضح جلياً المصالح والمفاسد؛ تكون الشريعة الإسلامية هي الحاكمة في ترجيح إحدى الكفتين بناء على الضرورات الخمس التي جاء الإسلام بحفظها: الدين والنفس والعقل والعرض والمال. ولا أظن أن أحداً من المؤيدين أو المعارضين سيعترض على فكرة أو نتيجة الدراسة إذا كانت ملمة بالقضية محايدة مليئة بالحقائق والأرقام والتحليل العلمي المنطقي دون الأحكام المسبقة والأهواء المعلَّبة. وهذا يتطلب أن يصرف فيها كثير من الجهد والوقت والمال، فهي تستحق ذلك بلا شك. وبعد ذلك أيضاً يمكن أن تتخذ بعض الإجراءات والضوابط التي تحقق كثيراً من المصالح وتجتنب كثيراً من المفاسد سواء أُقرَّت قيادة المرأة السيارة أم لا. الأهم من ذلك كله أن يعالج تزايد التحرش العلني والمعاكسات التي يقوم بها بعض الشباب للفتيات، وأن تجفف المنابع المحرِّضة لهذا التحرش والمعاكسات، وتزداد الجرعة التثقيفية الأخلاقية، وأيضاً أن يُضبط النظام المروري وتحل مشكلاته ويطبق بحزم؛ فقد أوجعنا وأفجعنا كثرة مصابي وقتلى الحوادث وكأننا نخوض حرباً حاصدة منذ أن دخلت السيارات إلى مجتمعنا الغالي.