قبل أن أبدأ.. أود أن أبعث تحياتي وتقديري للرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معالي الدكتور عبداللطيف آل الشيخ على وقفته الكريمة وأدائه لواجبه الإنساني في التعزية لذوي المصاب في الحادث الذي وقع لأسرة سعودية توفي منها شابان نتيجة سقوط سيارتهما في اليوم الوطني من على جسر في الرياض لأسباب لم تتضح معالمها نهائياً حتى الآن، وبعد التحية دعونا نبقى في هاشتقات تويتر وأجوائه التفاعلية حول القضية التي امتزجت بالازدواجية إلا أن أغلبية آراء أفراد المجتمع ترى أن لبعض أفراد الحسبة دوراً في حوادث قتل مواطنيهم. في اعتقادي الشخصي، أرى أنه من السذاجة جدًا أن «يطهبل» بعضهم للقتل «الاحتسابي» ويبرره -من باب الذود والمنافحة عن الهيئة وتقديسها- حينما يشتبه في وقوعه بدلا عن التأني وعدم الخوض فيه وإرجاء الحديث حتى نتائج التحقيقات؛ لأن من شأن ذلك أن يوقد الصدور أكثر ويرفع مستوى الاحتقان الشعبي للمجتمع المندد بالمأساة وبسبب نمطي متكرر «المطاردة» (راح ضحيتها مواطنون في تبوك وبلجرشي والرياض). ما يتولد لدى هذا المجتمع المحتقن هو ردة فعل تشير بأصابع اللوم على المتهم الفاسد الذي أوقع جهاز الحسبة بأكمله في حرج افتراضاً، طالما أنها لا تجد ما يقنعها من إجابات وأفعال يراها عادلة من المنظور القانوني والقيمي المقاس أيضا بناء على أحكام الشريعة اجتهادًا (التي تستمد منها الحسبة قوانيها أيضا).. والأردأ من ذلك أن تتبنى بعض محاولات امتصاص الغضب الشعبي من خلال مقارنة ردة فعل المجتمع ومحاسبتها حينما يصدر عن اجتهاد بعض المحتسبين «المطاردة» أضرار جانبية تؤدي للاشتباه في ضلوعهم بالقتل مع القتل الطبي «مثلا» نتيجة الإهمال أو الخطأ الطبي! لأنه مع كل فجيعة اجتماعية تثير الرأي العام كالقتل الطبي تنال وزارة الصحة ومنسوبوها من الأطباء والطاقم الطبي النصيب الناري من النقد اللاذع الساخط، ولا تتوانى في مثولها مُدعى عليه أمام الخصوم المدعين في المحاكم الشرعية وديوان المظالم مع تحديث معلومات المجتمع عبر وسائل الإعلام بمسار القضية المرفوعة.. ولا تبدي حينما تدان إلا امتثالها للأحكام الصادرة ضدها فضلًا عن مساعيها لتصحيح أخطائها وعدم تعاليها مع المتضررين لأن الاعتراف بالإدانة في ذهن المجتمع أشبه بالتعهد أن الخطأ سيتم تقويمه والحيلولة دون وقوعه مستقبلًا مما يعطي الطمأنينة للمتوجسين من المواطنين.. فهي في النهاية مؤسسة خدمية وُضعت من أجل المواطن ورعايته وخدمته والحرص عليه بمقابل حكومي جبار.. بل وهي شهادة حق أن وزارة الصحة تقوم على إرسال كثير من المرضى السعوديين حينما يقع الخطأ أو الإهمال غير المقصود في أرقى مستشفيات العالم للعلاج متكفلة بمصاريفهم كاملة متحملة وزرها ووزر أخطاء بعض المستشفيات التي لا تتبع لها في نهاية المطاف إلا أن كل هذه التفاصيل الإيجابية لا تذكر في الصحافة فقد لا تستوعبها ولأن الصحافة غالبًا تدل المسؤول على مواطن الخلل أكثر من تسليط الضوء على كل منجزات منظمة المسؤول! ولكن حينما نعود لقضايا الحسبة كمواطنين لا نزال نريد أن نعرف مزيداً من نتائج التحقيقات في قضايا القتل التي يشتبه المجتمع أن لبعض منسوبي الحسبة دوراً فيها وإن كان عن غير عمد، خصوصاً حينما يتهم ويفضح الضحايا الأموات بالسوء ك»الخلوة غير الشرعية وتعاطي المسكر» مما يرفع من وتيرة الاحتقان الشعبي ويحيد كليا عن مسألة ضبط النفس..وهذا أدى إلى تراكم صوت تساؤلات جيل المغردين الشبابي الذي يشكل أغلبية تعداد سكان الوطن: السؤال الأول هل يخترق سلك الهيئة الفكر الإخواني؟ الإجابة في نظري لا، ولست هنا في مجال استعراض فكر حسن البنا وما آلت إليه منظمات الإخوان من لفظ اجتماعي لها بسبب مخالفتها الصريحة للسير الحقيقي على نهج السلف الصالح من أجل تحقيق أجنداتها الفاشية. إلا أنه لا يمكن إنكار تبني هذا الفكر لدى فئة كثيرة من مواطنيننا عن حُسن نية في أغلب الظن، ومع ذلك يفترض أن لا يكون هناك تعامل انحيازي ضد أي مواطن لا ينتمي لمذهب أو يتبنى أفكاراً تخصه تكون سبباً في جلافة بعض منسوبي الحسبة.. لأن مبدأ الدولة منذ إنشائها ينادي بوسطية الدين التي جدد أسسها في الجزيرة العربية الإمام المجدد العلامة محمد بن عبدالوهاب رحمه الله.. ولكن ما يثير المخيلة حول هذا الموضوع وربطه بتزمت بعض منسوبي الحسبة «المطاردات» أن الفكر الإخواني المتشدد يتطرف في نظرته التشكيكية لكل مسلم لا ينتمي لنهج الجماعة حتى يوسم بأنه «طاغوت» لابد من محاربته.. وقد صرح معالي رئيس الهيئة في مناسبات عديدة أن «المطاردة» ليست من صلاحية الحسبة لأن هممها أكبر من أجل حفظ المجتمع بالتي هي أحسن. السؤال الثاني: هل ستلغى الهيئة؟ الإجابة النظرية «لا»، لأن الإسلام جاء ليؤكد على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل تكوين مجتمع يتمتع بالأخلاق العالية والقيم العليا الحضارية، وهذا التأكيد في قوله تعالى بسورة آل عمران: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. كما أكد على عظم هذه الشعيره العظيمة رسولنا المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. ففيما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه ما روى الإمام أحمد بن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم». وقد امتدح الله سبحانه وتعالى أمتنا لأننا نقوم بهذه الشعيرة، في قوله تعالى من سورة آل عمران: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}، فعلى امتداد العهد الإسلامي عُرف الاحتساب بين المسلمين، وقد ظهر رسميًا لأول مرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمراقبة ارتفاع السلع والغش في الأسواق ثم عرف في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه باسم الشرطة، واستمر دور الحسبة الريادي في الدولة الإسلامية فكان العلماء المصلحون قبل قيام الدولة السعودية يحتسبون على مستوى فردي ومع استقرار البلاد تحت حكم الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله كلف العلماء بولاية الحسبة وتنفيذ أعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي عهد الملك فيصل رحمه الله تطور عمل هذه المؤسسة لتركز على الوظائف الدينية: كسلامة العقيدة الدينية والعبادات والمعاملات والسلوك والأخلاق. وفي عهد الملك خالد رحمه الله صدر قرار يقضي بتأسيس «الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وعين أول رئيس لها ومُنح مرتبة وزير. ثم تقدم التطوير في عهد الملك فهد رحمه الله لتصبح المؤسسة جهازاً مستقلاً يرتبط مباشرة برئيس مجلس الوزراء «الملك» ويعين رئيسه بأمر ملكي. وفي عهد خادم الحرمين الشريفين أوليت عناية مليارية من أجل تطوير أنظمتها الأمنية وتطوير قدرات أفرادها لما فيه خدمة المجتمع وحماية أخلاقه العامة للمحافظة على هوية المجتمع السعودي. السؤال الثالث: كيف ستضمن الاستمرارية للحسبة مع تغيرات المجتمع وتقدمه؟ إصلاحها المستمر يتكيف مع تغيرات ومطالب المجتمع لحمايته من الفساد القيمي والأخلاقي وهو مما لا يدعو من قلق الجمود.. كما أن قائدها الحالي د.عبداللطيف آل الشيخ خير ما يوصف به ما قاله جبران خليل جبران: يزداد لطفا ما علا قدره.. وهكذا شأن الرجال العظام وهو يدرك جيداً أن مؤسسة الحسبة ليست فقط مساءلة أمام مجتمع تقوم من أجله ولكنها أيضا محط اهتمام وسائل الإعلام الغربي الذي يقف دائما عند مشهد الصور التي يحتقن منها الرأي العام.. جدير بالحسبة أن ترفع شعار نهجها في عدم تدخلها بشؤون الآخرين وحرياتهم وخصوصياتهم إلا بما يحفظ حقوق العامة، وأن تقويمها للمجتمع في توجيه نصحها وإرشادها يشمل معاقبة المخطئ ورد الحق للمتضرر إن بقي على قيد الحياة أو وقع شهيداً للمطاردة.. مع حرص المجتمع أن تعود الحسبة لسابق عهدها في بذل مساعيها بمراقبة الأسواق فيما يتعلق بارتفاع السلع ومحاربة الغش لأن ذلك كان أساسها حينما رفع رايتها رسمياً ابن الخطاب رضي الله عنه من أجل محاربة تطفيف المكاييل وغش الناس، ولا يتنازل المجتمع عن أهمية دورها في كبح جماح دُور الدعارة وأوكار الخمور ودعوتها إلى التمسك بالدين والفضائل وحمايتها للنساء المغفلات من الابتزاز ومنعها لرفع غير المسلمين لشعائرهم في بلد الإسلام، وإبطال أعمال الشعوذة.. كل ذلك يجلي الصورة الجميلة عن الحسبة أنها ليست سلطة لقهر الناس ولكنها ركيزة من ركائز الخير في المجتمع.