لُقِبَ أرسطو ب «المُعلّم الأول» لأنه لم يترك باباً في العلوم الإنسانية والطبيعية إلا وطرقه. بدءاً بالفلسفة ومروراً بالفلك وانتهاءً بالأحياء والكائنات. ولكنه رغم براعته في الفلسفة، إلا أنه كتب أشياء تُعد مضحكة في علوم الفلك والطبيعة. وعرف أيضاً بأنه كان ينزعُ إلى هدم نظريات مخالفيه ليثبت صحة نظرياته وأفكاره، فعلى سبيل المثال، أصر على دحض نظرية فيثاغورث القائلة بأن الشمس هي مركز نظامنا الكوني، وافترض أن الأرض من تتبوأ ذلك المكان. ولهذا قال عنه الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون «إن أرسطو يسير على الطريقة العُثمانية، حيث لا يستطيع أن يحتفظ بالحكم إلا إذا قَتَل جميع إخوته». أي، إلا إذا أثبت أن رأي المُخالفين له خطأ لا يحتمل الصواب، ورأيه صواب لا يحتمل الخطأ. ونتاجاً لهذه الطريقة الفكرية، وقع في أخطاء علمية لا حد لها، لأنه كان أولاً، معتداً برأيه أشد الاعتداد، وثانياً، غير منفتح على فكرة التنوع الفكري التي تُعد أحد نواميس الحياة، التي تُقِرّ بأنه ليس بالضرورة أن تكون الآراء الأخرى صواباً أم خطأً، بل قد تكون وجهات نظر أخرى تُسلط الضوء على الحقائق والأفكار الإنسانية من مناظير مختلفة. وقد أدى اضمحلال هذه الفكرة الحضارية في أي أمة عبر التاريخ إلى انزوائها في أركان الجهل وانخراطها في مغارات الظلامية والدوغمائية الفكرية (أي التعصب لفكرة معينة) وبالتالي، غياب التعددية والاختلاف -وليس الخلاف- اللذين يمنحان الحياة رونقاً وجمالاً. اسأل نفسك: هل رأيت لوحة بلون واحد فقط؟ وإن فعلتَ، فهل كانت جميلة؟ إن التعدد من شروط الجمال، والاختلاف يُبرز ملامح الجمال ويُنضجه مثلما تفعل الأضداد تماما. قال المنبجي: «ضدَانِ لما استُجمعا حَسُنا // والضِّدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضدُ». ولذلك فإن الإنسان الحضاري الذي يستطيع أن يتماهى مع عصره دون ذوبانٍ فيه أو اضمحلال، يبحث عن مواطن الجمال في الأشياء والأفكار والأشخاص وكل شيء تقريباً. ويُدركُ أنه ليس في حربٍ أيديولوجية كونية يقف فيها على إحدى ضفتين وعلى الضفة المقابلة يقف عدو يتربص به الدوائر دائماً، بل يؤمن بأن الحياة بحرٌ شاسع يسبر الناس أغواره ليرسو كل منهم على شاطئ ما. ثم يرتحلون بين الشواطئ بحثاً عن الفكرة، وعن السعادة، وعن المغامرة، التي تشكل في مضمونها إذا اجتمعت «الحقيقة». وفي أكثر الأحيان فإنهم لا يصلون إليها، ولكنهم يستمتعون بتفاصيل الرحلات والأماكن التي يرتادونها، والبقاع التي يكتشفونها في رحلتهم الوجودية تلك. ومن أجمل الشواطئ التي يرسو عليها المرتحلون هي محطات التسامح، عندما يقفون أمام أفكار جديدة، وأشخاص جدد، يظن كل منهم أنه يملك الحقيقة المُطلقة، ولكنه لا يدرك ماهيّة حقيقته إلى أن يعرضها على أخيه الإنسان وينظر ماذا لديه، حتى إذا ما انصرف من عنده وجد أن حقيقته تلك كانت ناقصة، ويكتشف أن ما لدى الآخر لا يقل جمالاً عما لديه، فيضيف إلى حقيقته سياقات معرفية جديدة؛ فتتقزم أمامه حقائقه الصغيرة التي لُقنها أو قرأ عنها، ويدرك أن الحقيقة ليست جِرْماً وحيداً يسبح في الفراغ، بل أجرام كثيرة جداً، عليها أن تصطف وتنتظم كالأجرام السماوية لتُشكل مجرة الإنسانية، وماهيّة الوجود العظيمة المتنوعة. إن قدرة الإنسان على رؤية الجمال تعتمد على قدرته على المواءمة بين نصوص حقائقه وبين السياقات التي وردت فيها. وأعني بذلك السياقات التاريخية الظّرْفية، والاجتماعية والعِلمية. فعندما أصر أرسطو على أن الأرض مركز الكون، لم يكن قادراً على.. أو حتى متقبلاً للسياقات التي عاصرها واعتصر معها فيثاغورث، بل كان مُصراً على «قتل» كل ما لا يتناسب مع فكرته التي لا تعدو كونها نظرية وليست كشفاً علمياً، ولذلك فشل في العلوم الطبيعية. ولو أنه كان أكثر تقبلاً للاطلاع على ما لدى الآخر بحيادية معرفية، وفهم كلامه ثم تروى قبل الحكم عليه، لربما كان أعظم المستكشفين في التاريخ. لا يعني ذلك أن يتخلى المرء عن قناعاته ومعتقداته، ولكنه لا يعني أيضاً أن ينأى بها في صومعة منعزلة خوفاً عليها من التشويه أو الاختطاف. باختصار، مواطن الجمال تكمن داخلنا، وإذا لم نستطع أن نغرس مفاهيمها الأساسية كالعطاء، والتسامح، والتعددية، والفضول المعرفي، فإننا سنبقى نراوح في الظُّلمة، لا نرى إلا السواد، ولا نسمع إلا أخبار القتل والتفجير. وكل ما يمكننا فهمه، ربما، هو ما يُسمح لنا برؤيته. لذلك كان التساؤل المستمر أجمل أشكال الحقيقة، وأكثرها إشراقاً؛ فالأسئلة الصحيحة أعظم بكثير من الإجابات الصحيحة.