لم يعد بعيداً الوقت الذي تبهت فيه الأمثال والقصائد والدروس التي تتحدث عن حكمة الكبار، واشتراط النضج بالعمر؛ وانتهى الوقت الذي يجلس فيه الصغير ساكنا في حضرة الكهول مصغياَ لكلامهم ومتلقفاً عصارة تجربتهم ورؤيتهم. إذ أصبح الصغار يحشرون أنوفهم في كل شأن وإن لم يسمع أحد صوتهم فرضوا ذلك بطرائقهم الخاصة والشريرة أحياناً. سطوة العمر كانت سائغة حين كانت المجتمعات تزحف بطيئا نحو التغيير، وتنقل المعرفة عبر التدحرج عمريا، وحين كانت التطورات تسير بؤدة ووقار أما وقد جرفتها شهوة الركض فالفائزون هم الشباب لأنهم الأقوى بنية والأكثر تحملاً ولأن عضلاتهم لم تتيبس بسبب التأمل الطويل واعتياد الجلوس. الوتيرة المتسارعة تعمق الفجوة بين الأجيال فإن لم تنشأ لغة تواصل أكثر مرونة فالنتيجة الطبيعية أن يبني الشباب مستعمراتهم الخاصة السرية: لغة وثقافة ومجتمعاً منقطعة الصلة بعالم الكبار الذين قد يدهشهم هذا الحال فيرونه زيغا وخللا. يفاجأ الأب أن أطفاله يتحدثون لغات لايعرفها، ويتعاطون تقنيات يستحيل عليه استيعابها فلا يمضي وقت إلا ويكون خارج دائرتهم، بعيداً عن اهتماماتهم بعد أن كان المحور والمركز. يقف المعلم متباهيا بخبرته المكرورة عبر عقود ليجد أن تلاميذه الصغار يتوافرون على معلومات ومعارف يستنكر وجودها أصلا. في السابق كان الأدلاء يتفاخرون بمعرفتهم متاهات الصحارى بينما في مقدور ابنه المراهق أن يرشده، تقنياً، في أي مكان في العالم وليس مجرد صحراء يحفظها عن ظهر قلب. أكثر الأخطاء التربوية هي ربط احترام الكبار بعلمهم ومعرفتهم وكان المنطقي أن يترسخ الاحترام عبر معاني التقدير والاعتزاز والطاعة لأن أطفال اليوم يفوقون كبارهم في العلم وأدواته فهل سيحترمون كبارهم وهم يجدون معرفتهم ثانوية ومنقطعة عن كل جديد؟. سقوط الاحترام يخلخل بنية المجتمع التربوية وإن بقي الحال كما هو فلن يكون للكبير أي احترام وحينها ستختفي معه جميع القيم النبيلة المرتبطة به.