تحدثنا في الأسبوع الماضي عن اعتصام خريجي المعاهد الصحية أمام وزارة الصحة ومطالبهم المشروعة بالتوظيف، وناقشنا المفارقة المتمثلة في أن البلد بحاجة فعلية لهذه الكوادر من حيث نقص الخدمات الصحية في البلاد لكن الخلل كامن في الأوعية الوظيفية التي تستوعب هؤلاء الخريجين، فنظام الخدمة المدنية الذي تتبعه الوزارة لا يوفر العدد المناسب من الوظائف من جهة، والقطاع الخاص لا يعد بيئة جاذبة لهم، بل إن لسان حاله يقول (لا تقرصيني يا نحلة ولا رغبة لي في عسلك). ووزارة الصحة تصرفت هنا وكأنها تواجه مشكلتين منفصلتين، فهي من جهة تجاهد لتوظيف أكبر عدد تسمح به وزارة الخدمة المدنية ولو لرفع الحرج الحاصل الآن، ومن جهة أخرى تسعى للتفاوض مع القطاع الخاص للوصول لصيغة تجعله يقبل تعيين بعض هؤلاء الخريجين رغم تمنعهم وتمنعه وكأنها تسعى في الصلح بين زوجين لا يطيقان بعضهما! لكن المشكلة في الحقيقة هي مشكلة واحدة وليست مشكلتين ويمكن تلخيصها بعبارة (غياب المعايير) فكل هذه الفوضى الحاصلة تعود بشكل أو بآخر إلى عدم تطبيق المعايير الصحيحة على الوقائع. فلو أخذنا النظام الداخلي للوزارة لوجدنا أنه يطبق معايير الخدمة المدنية في التعامل مع كوادره الطبية من أطباء وفنيين، فهو يقيس إنتاجيتهم بعدد الساعات التي تواجدوا فيها داخل المنشأة الصحية تماماً كما يقيم أي موظف إداري في مصلحة الزكاة والدخل. كما تُربط ترقيتهم ونقلهم بالكثير من القيود كتوفر الرقم الوظيفي الشاغر ووجود بديل... إلخ. كما أن وجود كفاءة متميزة في قطاع حكومي يقضي بالضرورة حرمان أي قطاع آخر من تلك الكفاءة، فمثلاً إذا تواجد فني متميز في العناية المركزة أو أمراض القلب في مستشفى يتبع لوزارة الداخلية أو الدفاع فمن الممنوع طبقاً للنظام أن يستعان به في مستشفى تابع لوزارة الصحة مهما كانت الحاجة له ملحة، والعكس صحيح كذلك فالوزارة تحتكر كل الكفاءات التي لديها وتمنع (تسربها) لأي قطاع آخر بأي صيغة من الصيغ، وكل ذلك حسب النظام!. وبالتالي فإن الشواغر الوظيفية المحدودة أساساً يتم إشغالها بكوادر لا تستغل بشكل كامل فضلا عن أن إنتاجيتها غير قابلة للمحاسبة و القياس الدقيق أي أن لدينا هدراً في الطاقات داخل نطاق القطاع الصحي العام تسبب في العجز عن تلبية الاحتياج وكذلك في انسداد وشح الوظائف المتوفرة ولو كانت معايير النظام المطبقة تتلاءم وطبيعة العمل الطبي الميداني لما وصلنا إلى هذا المستوى من تدني الخدمات وشح الوظائف في ذات الوقت. ولكي نخرج من هذا المأزق فإن الوزارة بحاجة إلى قرار شجاع يجعلها تطالب بالخروج من تحت مظلة الخدمة المدنية وتصوغ نظاماً جديداً للخدمة الصحية يتلاءم وظروف العمل الميدانية، نظام يرتهن في عدد وظائفه للاحتياج الحقيقي للبلاد لا لرضى لجان المالية والخدمة المدنية، نظام ذكي يسمح بتغطية النقص بالتعيين الجزئي أو الكامل ويدفع للموظف على قدر إنتاجيته لا على موعد توقيعه في دفتر الحضور والانصراف، نظام يركز على جودة الخدمة والارتقاء بها لا استعباد الموظف ومطاردته بالقيود في كل اتجاه، نظام يتمتع بالمرونة في التعيين والترقية وبمعايير واضحة في الثواب والعقاب. إن مشكلة وزارة الصحة لم تكن في أي يوم من الأيام مشكلة موارد، لكنها مشكلة أنظمة، وما لم يعترف مسؤولو الوزارة بخلل تلك الأنظمة فإن كل مساعيهم للتوسع في بناء منشآت جديدة لن يؤدي إلا لتأجيل المشكلة وترحيلها لسنوات قليلة قادمة تكون قد تفاقمت وازدادت تعقيداً وتشابكاً. صحيح أن تعديل الأنظمة يحتاج صلاحيات تفوق صلاحيات الوزير، وصحيح أن تعديل الكادر الصحي فقط ذوب وزيرين قبل أن يرى النور بصيغة هزيلة ومختلفة جداً عن بدايته. لكن قد تكون وقفة الشباب هذه على أبواب الوزارة فاتحة عهد جديد يسهم في القضاء على الفكر الإداري المتخلف الذي يخنق القطاع بقبضة من ورق، ومن واجب الوزير استغلال موجة السخط هذه للدفع باتجاه التغيير بشجاعة وصراحة وانفتاح على الإعلام حتى لو تعثرت وتأخرت الخطى، فأن تخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح ولو كان وعراً خير من أن تخطو ألف خطوة في الطريق الخطأ.