من منّا لم يسمع برواية إحسان عبدالقدوس الشهيرة: (لن أعيش في جلباب أبي)، هذا العنوان جذبني إلى أن ألج جلباب أبي؛ لأستكشف خباياه، فكان أرشيفاً من اللوحات الصامتة التي ما إن ألقي عليها نظرة حتى تدب فيها الحياة وتتحرك شخوصها. في أول جولتي طالعتني مساحة داكنة من ألوان شتّى، تغشاها بعض العتمة مما يَشي بطغيان معاناة نفسية وجسدية من العيار الثقيل، فعللتُ سبب تقلب مزاجك وجنوحك إلى العزلة والصمت في بعض الأحيان، وتملكني شجن لم أنجُ منه إلاّ على أصوات بريئة تعالت نبراتها وسط هالة من نور، كانوا ثمانية صغار يتحلقون حولك وأنت تبادلهم الضحكات والبسمات، فسرّني أن مشاغل الحياة لم تنسك دورك الأبويّ، ولم تفوت علينا حاجتنا لننهل من حبك وحنانك، فأدركت كم كنت عظيماً يا أبي، وبينما كنت أتنزه بين زوايا طفولتي جرتني ذاكرتي إلى محطات صغيرة لا تقل بهجة، رأيتك بيننا تشاركنا أحزاننا وأفراحنا، تعزز نجاحاتنا، وترسم لنا طريق النجاة من إخفاقاتنا، ننتخيك ونلوذ بك في الملمّات فكنت كالجبل الصلد الذي يهزأ بأعتَى ريح. واستدرت لأكمل جولتي في جلبابك العبق بطيب الذكرى، فتعثرت ببطانة أخرى هي من أرق البطائن بل وتفوقها نعومة ودفئا، يطل عليّ منها وجهك ووجه أمي كقمرين مكتملين، وتهادى إلي طرفاً من حواراتكما التي سرت بين ضلوعي كما تسري نسمات الصيف بين النخيل في واحتنا الجميلة، فعرفت كيف بلغتم بنا الجانب الآمن من الحياة. وغِبت في قبضة تلك الصورة حيناً إلى أن طالعتني لوحة أخرى لا تقل جمالاً، مساحة شاسعة تموج ببشر ملونين وأنت بينهم لكنك كنت أطولهم قامة فأدركت أنك نبراسهم، فاستأذنت وصعدت إلى المنصة وانحنيت لك طويلاً. (اللهم بلغني رضا والدَيّ).