يقول المفكر الألماني المسلم مراد هوفمان إن الغرب بعد سقوط الخلافة العثمانية وتفكك ولاياتها وسيطرة القوى الاستعمارية، اعتقد أن الإسلام قد دُمِّر تماماً، ولم يعد هناك أي مخاوف من انبعاثه من جديد، وبالتالي فلن يهدِّد أوروبا مستقبلاً. وما عزَّز من هذا الانطباع هو أن عدد الحجاج القادمين إلى مكةالمكرمة من مختلف أصقاع الأرض في سنة سقوط الخلافة لم يتجاوز الثلاثين ألف حاج فقط! وبالتالي أدركت الدول الغربية أنها نجحت في حسم «المسألة الشرقية» التي كانت قد بدأ الحديث حولها في السنوات الأخيرة من عمر الخلافة العثمانية، ويقصد بالمسألة الشرقية هي مناقشة مصير بيزنطة (القسطنطينية) بعد أن خضعت للحكم الإسلامي، التي كانت معقل المسيحية الأرثوذكسية قبل ذلك، فبعد ضعف الدولة العثمانية برزت على الساحة الدولية «المسألة الشرقية» كملف عالق بين الشرق والغرب بحجة أن المدينة حضارياً وتاريخياً وجغرافياً مدينة مسيحية/ وبالتالي لابد أن تعود لأحضان الغرب المسيحي. وما هيأ المناخ للهجوم العكسي المضاد الذي شنَّه الغرب المسيحي على الشرق المسلم- بعد أن كانت الدولة العثمانية سابقاً، هي من يبادر في الهجوم وتوغلت في أوروبا حتى وصلت إلى أسوار فيينا- هو سقوط الأندلس وبروز البرتغال كقوة بارزة على الساحة الدولية. فأخذت في الهيمنة على المحيط الهندي، حتى وصلت إلى بحر عمان، واستحلت الخليج العربي، وأخذت تخطِّط للتوغل في البحر الأحمر للوصول إلى ساحل جدة بغية السيطرة على الأراضي المقدسة، لولا يقظة القلاع العثمانية في جنوب الجزيرة العربية وحراسة مضيق باب المندب والحيلولة دون توغل السفن البرتغالية. ففي الخليج العربي تواطأت الدولة الصفوية مع البحارة البرتغال لضرب الدولة العثمانية من الخلف، وكان ثمن هذا التواطؤ هو العراق! مقابل السماح للسفن البرتغالية في بسط نفوذها على مياه الخليج والمحيط الهندي. وبالفعل توالت الضربات الصفوية في ظهر الدولة العثمانية واستولى الصفويون على العراق، في الوقت الذي يخوض فيه العثمانيون معارك شرسة في شرق أوروبا. وفي تلك الحقبة كانت دولة القيصر الروسي تقضم الأراضي الإسلامية في الشرق، وعلى إثر ذلك اندلعت حروب عنيفة بين العثمانيين والروس استمرت عدة عقود. والحقيقة أن الدولة العثمانية لم تكن ترغب في الاستعانة بالعرب آنذاك لمواجهة التحالف الصفوي البرتغالي، الذين كانت لهم قدرة على تحقيق توازن فاعل إذا ما قدم لهم الدعم اللوجستي اللازم، بسبب تمركزهم في تلك المناطق بعكس الجيوش العثمانية دائمة التنقل، التي أنهكتها الحروب المستمرة في مختلف البيئات. وبالطبع فإن إحجام الدولة العثمانية عن تسليح العنصر العربي لمواجهة الصفويين الفرس هو توجسهم الدائم من عودة الخلافة الإسلامية إلى الحضن العربي. وبعد أفول نجم البرتغاليين وبروز القوة الهولندية، ومن بعدها البريطانية على الساحة الدولية، أصبحت المنطقة مستهدفة لبسط الهيمنة على مكان التقاء القارات الثلاث، وعلى أهم مضائق البحار ومعابر التجارة الدولية. ومع تآكل أراضي الدولة العثمانية من الشرق من قبل الروس، ومن الغرب من قبل الدول الغربية ازداد نفوذ البريطانيين في المنطقة، ولاسيما بعد استقلال بعض الأقاليم الإسلامية فعلياً عن مركز الخلافة في الاستعانة والاكتفاء بالتبعية الصورية. فاستغلت بريطانيا ذلك الانفصال وكثَّفت من تواصلها مع القوى الصاعدة في هذه الأقاليم، ولاسيما في مصر مع أسرة محمد علي باشا، وعزَّزت من ذلك النفوذ مع فشل ثورة أحمد عرابي على الخديوي توفيق، وذلك باحتلال مصر بشكل صريح بحجة حماية عرش الخديوي. وبعد انهيار الخلافة العثمانية، بعد الدخول الأحمق لجمعية الاتحاد والترقي (الحاكمة) في الحرب العالمية الأولى بجانب ألمانيا قُسِّمت المنطقة بين فرنسا وبريطانيا وفق معاهدة «سايكس بيكو» الشهيرة. ورزحت المنطقة تحت احتلال صريح استمر عقوداً. لكن الضرر الكبير الذي سببه هتلر لفرنسا وبريطانيا في الحرب العالمية الثانية جعل من استمرار الاحتلال المباشر مهمة صعبة ومستحيلة في ظل وضع اقتصادي صعب، بالتزامن مع حركات تحرر شعبية في المنطقة. ففضلت الدول الاستعمارية اتخاذ نهج سياسي جديد تحصل هذه الدول بموجبه على الاستقلال مع بقاء التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية. وفي ظل تخوف بريطانيا من توغل الاتحاد السوفييتي في المنطقة فضَّلت بريطانيا المنهكة الاستعانة بأمريكا صاحبة الضربة القاضية في الحرب العالمية الثانية، لتعقد الأخيرة معاهدات حماية وتعاون اقتصادية مع دول المنطقة للجم المد الشيوعي. وبالطبع فإن تصرف بريطانيا هذا تم وفق قاعدة أخف الضررين، فهي ترى أن أمريكا شريك استراتيجي يشترك معها في طبيعة النظام الاقتصادي والسياسي والهوية والمصير. وربما أدركت بريطانيا أن أمريكا ستستفرد بالكعكة كاملة! ومنذ ذلك الحين والمنطقة تقبع تحت الهيمنة الأمريكية. وقد يدرك كثيرون أن هذه الهيمنة لم تكن تسمح باستقلال اقتصادي وعسكري حقيقي لدول المنطقة . فما يحدث الآن من حراك على مستوى المنطقة ما هو إلا محاولة لنفض هذا الإرث الثقيل من التبعية والاحتلال المتراكم عبر قرون طويلة!