جاءني أثناء الثورة الليبية ابني سعيد، وقد كان يبلغ حينها ثمانية أعوام، وقال لي بلغة طفولية بريئة: «هل استطاع الثوار القبض على القذافي أم لا!» دُهشتُ وضحكت من سؤاله، فلا أذكر أنني شاهدتُ الأخبار في حضوره. وعموماً فإنني لا أشاهد القنوات الإخبارية إلا قليلاً؛ لأنني أرفض إدخال طاقتها السلبية إلى منزلي. سألته عن مصدر علمه عن القذافي وعن الثوار؟ فقال لي إنه يسمع بعض زملائه يتحدثون عنه. فسألته وكيف عرف زملاؤك القذافي؟ فقال: «لا أدري، أظن أن آباءهم يخبرونهم». وعندما أتصفح الجرائد لا أكاد أجد مقالاً يتحدث في شأن غير شؤون الحروب والثورات والخلافات السياسية والطائفية والأيديولوجية العربية أو العالمية. ثم عندما أختلط بالجيل الجديد، وأقرأ تعليقاتهم في تويتر ورسائلهم التي تصلني من خلال مختلف وسائل التواصل، لا أجدهم يهتمون بتلك المشكلات والقلاقل التي تضج بها المنطقة؛ فأتساءل: لمن يكتب أولئك الكُتّاب؟ إن كان الشباب، وهم الأغلبية في المجتمعات العربية، لا يهتمون بتلك القضايا؟ وأتساءل مرة ثانية: ولمن يقرأ هؤلاء الشباب إن كان جُلّ ما يُنشر اليوم لا يُلبّي حاجاتهم الفكرية ولا يُجيب عن أسئلتهم التنموية المُلِحّة؟ صحفنا وقنواتنا العربية لا تختلف كثيراً عن الصحف الأجنبية في الغرب، فهي أيضاً تهتم بالشأن السياسي بشكل رئيس، ولكن الفرق بيننا وبينهم أن لديهم مجلات وقنوات لعالم الطبيعة والحيوان، وأخرى للرياضة، وأخرى للعلوم، وأخرى للتكنولوجيا، ولك أن تذكر ما تشاء من علوم الحياة وستجد مجلة أو قناة متخصصة فيها. يُحب أطفالي عالم الحيوان والبرامج العلمية، ولذلك فإنهم مدمنون على مشاهدة قنوات ناشيونال جيوجرافيك وديسكفري وآنيمال بلانيت، التي تظهر كل برامجها باللغة الإنجليزية، وعندما بحثتُ لهم عن شيء عربي وجدتُ مجلة ناشيونال جيوجرافيك العربية وقناتها التي تصدر من أبوظبي. ثم نسمع من يقول: «إن اللغة العربية في خطر!» ونسوا أن الثقافة العربية، لا بل الحالة الإنسانية الفكرية العربية كلها في خطر! يحتاج الإنسان إلى الأمل حتى يُقبل على الحياة، ويحتاج إلى وسائل ليستطيع أن يطور نفسه ويستمر في ملاحقة حلمه، ويحتاج إلى نماذج إنسانية وعقول نيّرة ليقتدي بهم وبما يقولون وما يكتبون حتى يستنير بقبسهم. ولذلك فإنني أتمنى من كل كاتب وصاحب برنامج تلفزيوني أن يسأل نفسه: «هل تظن أنك تساعد هؤلاء الشباب والفتيات، بما تقدمه لهم، ليحصلوا على مستقبل أفضل؟» لا شيء أجمل من أن يكون الإنسان أداة لتحقيق أحلام الآخرين، ولا شيء أعذب من أن يُلهم كلامه شاباً أو فتاة فيصبحوا بسببه سعداء ومؤثرين في مجتمعاتهم. ولا أدري لماذا تقوقع قادة الرأي في مجتمعاتنا العربية، وأعني الكُتّاب والإعلاميين ورجال الدين وأساتذة الجامعات والمُفكّرين، على المشكلات السياسية والأيديولوجية، وتطرّف كثير منهم لرأيه أو لانتمائه الحزبي بعد أن كان يُعلّم الناس الوسطية والاعتدال، ولا يدرون أنهم يقمعون أحلاماً جميلة، وطموحات شبابية لا تُريد ولا تهتم بتلك الخلافات، وكل ما تريده هو مستقبل أفضل. في الستينيات والسبعينيات كان الفكر الشيوعي مكتسحاً المنطقة العربية، وكان المثقفون آنذاك يُمارسون دوغمائية فكرية مثلما يفعل كثير منهم اليوم، وفي الثمانينيات اكتسح الإسلاميون فيما عُرف بمرحلة الصحوة، فمارسوا أحادية شبيهة بمن سلفهم من الشيوعيين. ولكن من يبحث اليوم عن أولئك الدوغمائيين وعن أثرهم أو عن تلامذتهم ومُريديهم فلن يجد سوى أخبار الصراعات والتكفير والتفجير والإلحاد والشطحات الفكرية والعَقَدية. فلا شيء ينتج من الاصطفاف خلف التعنّت الفكري سوى الفُرقة، وتاريخنا القريب والمعاصر أكبر شاهد على ذلك. ولهذا فإننا لا نلوم المجتمعات وأفرادها عندما يتجاوزون كثيرا من نُخَبهم الفكرية، فالجيل الجديد متسائل وذو روح وثّابة وعقليّة خلاّقة. جيلٌ يرفض الهجرة إلى الغرب بحثاً عن أحلامه كما فعل آباؤه وأجداده، بل تراه مُصرّاً على إحداث تغيير إيجابي في مجتمعاته. ولذلك فإنني أتمنى من زملائي الكُتّاب والقائمين على وسائل الإعلام بكل أطيافها ألاَّ يُفوّتوا هذه المرحلة المهمة من التاريخ الإنساني العربي، التي قد تكون، ومن يدري، الجُزء الأخير من عنق الزجاجة المُظلمة التي راوحنا فيها عقوداً كثيرة. إن ما يحتاجه شباب وفتيات اليوم هو محتوى فكري يتحدث عن التنمية، والمعرفة، والفلسفة، والفكر الإنساني بكل أطيافه؛ لأنهم أرض خصبة فلا أقل مِن أن نبذر فيها كلمة طيبة حتى يكون أصلها ثابتٌ، وفرعها في السماء يوماً ما. قبل أيام كُنت أقُلّب القنوات فظهرت صورة القذّافي فصرخ سعيد يسألني إن كنتُ أعلم إنه قد مات أم لا، فسأله أخوه الأصغر عُمَر: من القذافي هذا؟ فرد سعيد بلغته الطفولية: «مجنون قَتَل الناس فقتلوه.» ثم التفت إليه وقال: «تعال نُشاهد حلقة خواطر».