لا تخفى مركزية المسجد في الإسلام، منذ أول مسجد أُسِّس على التقوى، مروراً بتاريخ الإسلام كله، وحتى واقعنا المعاصر. ولعل مفهوم الضرار في سورة التوبة المرتبط بمؤسسة المسجد يجلي لنا هذه المركزية، ليخرج المسجد من كونه حالة حضارية فقط، إلى استحالته إلى حالة ثقافية أيضاً، أقول هذا تأسيساً على التفريق بين الحضارة والثقافة، كما يراها علي عزت بيجوفتش -رحمه الله- في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب. هناك ارتباط وثيق بين شهر رمضان المبارك والمسجد، بل لا أكون متجاوزاً إذا قلت إن شهر رمضان يستنقذ المسجد من الأطراف، ويضعه في قلب الحدث شعوراً وواقعاً، وهذا أمر ظاهر للمسلمين ولغيرهم. لذا يروق الحديث عن المسجد في شهر رمضان، ومن وحي بيئتنا السعودية تحديداً ولكن من منطلق مختلف قليلاً. يمكن القول إن المسجد عندنا تراجع من مصدر للثقافة إلى عاكس لها، دون أن يمارس نوعاً من الاستفهام حيال الأمر! ويمكن رصد عدة أمثلة تدعم هذا الرأي وهي مفهوم العبادة والعلاقة بالأماكن العامة والشخصية الهندسية للمسجد والمرأة وخطبة الجمعة. فمفهوم العبادة الواسع والشامل لكل مناحي الحياة أصبح مقصوراً على أداء الشعيرة فقط، ولعل المسافة القصيرة جداً المتمثلة في سُمك جدار المسجد تشف بوضوح عن هذا الأمر عند انتهاك حقوق المارة والمرضى وجيران المسجد من قبل المصلين، وما عداها من تصرفات لا تليق. أما القطيعة مع الأماكن العامة ذات المنفعة المتعدية فإن ملحقات المسجد من دورات مياه وغيرها تبرز كنموذج صارخ، وكلما أوغل المسجد في البُعد عن الرقيب يتبختر الانتهاك وينتشي. تغيب عن مساجدنا هويتها الهندسية والإنشائية المنسجمة مع الواقع والاحتياج، وهذا يشي بالقدر الكبير من الاختزال لدور المسجد من جهة ولدور المعمار النابض بالمعاني من جهة أخرى، ولا ندري كيف يمكن أن تتحدَّث الأجيال القادمة عن مساجدنا إذا ما أرادت قراءة الواقع و التاريخ!. ويمكن تصور حجم العناية بالمرأة مؤسساتياً، إذا ما جال بصرنا في مصليات النساء بكل السلبيات التي يعرفها الجميع، وهكذا يتم منع إماء الله مساجد الله، ولكن ليس بنهي مباشر أو تسلط ظاهر، بل بالاستسلام أمام ثقافة يتبناها الجميع وينكرها الجميع في الوقت نفسه!. إن الاجتماع الأسبوعي الذي تقوده خُطبة الجمعة يعاني، وهو النموذج الأعلى في سياق الأيام السبعة، أقول يعاني أثقال تلك الأيام، ليفرز حالة يصعب تشخيصها (جميعاً) لكن من مفرداتها غياب فقه رجل يقصر الخطبة ويطيل الصلاة، لإيمانه بأن الإسلام يحفل باختصار الوسائط، بل ويمنعها ليدع الفرصة كاملة ليأتي العبد ربه فرداً في الدنيا قبل الآخرة. وهكذا يكشفنا المسجد ويشخِّص أمراضنا دون أن نجعله في مقام المعالج، ولنا أن نتساءل بعد أن رحل (التعليم) عن المسجد واستقر في مؤسساته الحديثة، هل يمكن أن تعيد (التربية) إطلالتها من المسجد؟ وأقصد بذلك التربية المجتمعية العامة التي تبث روح الحراك المدني المسؤول الذي لا يحدث شرخاً ولا يشهر ضراراً.