اشتاق الأول فقال: «بأكناف الحجاز هوى دفين يؤرقني إذا هدت العيون أحن إلى الحجاز وساكنيه حنين الإلف فارقه القرين» (:الأمالي لأبي القاسم الزجاج قال: أنشدناه أبو عبدالله نفطويه قال أنشدنا ثعلب عن ابن الأعرابي لأشجع السلمي.) ثم بعد مئات السنين تلعثم المحب فقال: ريحانة القلب في عينيك إسعادي أيامك الغُرُّ أفراحي وأعيادي حبيبتي أنت يا مهوى الفؤاد ويا كل الحياة ويا أنفاس ميلادي» و»الصمت في حرم الجمال جمال». تتزين المحبوبة بمحبيها، فتفيض عليهم من جمالها ما شاء خالق الجَمَال! في مواسم الشوق تتزين أرواح المحبين بمعاني الجلال التي استعاروها من بهائها، فحلقت الأرواح الطاهرة بعيداً بعيداً في مدارات النور وآفاق الروحانية، أرواح شَفَّت وانعتقت من آصار الطين ويبوسة الأرض، فطارت في سماواتٍ الطمأنينة والسكينة، فثمة مدى لا يوصف إلا أنه جَنّة هذه الدنيا! إنها المحبوبة حين تعطف على محبيها، والأم الرؤوم إذ تؤوي قاصديها، إنها المدينة حين تستقبل بحُبٍّ من اشتاقوا إليها زمناً طويلاً، وكانت أغلى أمانيهم مسّ شريف ترابها، والأنس في رياضها، وحالفهم السعد فتَجلَّت لهم جنة الدنيا، فيا سعد المحبين! إنها المدينة أفق الروحانية، وإنه رمضان أمد الروحانية، فائتلاف صفو الزمان والمكان في باقة من نور يبعث في الآفاق ألقاً لا حدّ له! ذات ظهيرة موسم، كانت السيارة تتهادى بنا على شارع «قربان» ومزارع العوالي تفوح بشذى النعناع والورد، وتلوح لنا منارات «الحرم»، وجموع الحجاج من كل حدب وصوب تحثّ الخطى إلى مسجد الحبيب عليه أزكى صلاةٍ وسلامٍ، فقال لي محدثي الذي تمثّل نبل أهل المدينة، وورث الوفادة كابراً عن كابرٍ: لقد تزينت المدينة!، وصدق والله! المحبوبة الغالية تزدان وتزيد ألقاً بانتظام محبيها كاللآلئ الوضّاءة في عقد النور، تتوافد جموع الزائرين إلى بلد الحبيب -عليه الصلاة والسلام- لعمارة المسجد الفريد والتلذذ بالأنس التام والسكينة الوارفة في رحبات المسجد المؤنس، الأنس والسكينة مفردتان تحاولان التعبير عن كُنْهِ الشعور الفريد الذي يلفّ قاصد المدينة وجليس المسجد النبوي الشريف، هل تذوقت النور؟! هل رأيت السكينة؟! تحتاج يا شفيف الروح إلى تبصّر الحواس لاستشعار الصورة، والتماهي مع المشهد الباذخ الجمال والجلال! ثمة مشاهد عالية تحتاج إلى انتباه الروح، وذكاء الفؤاد لإدراك أسرار الجمال، من تلكم المشاهد الزاهية: نسائم رمضان، وترتيل قارئ حسن بآي الذكر الحكيم، وأجواء طيبة التي لا تشبه غيرها! إنها نسائم الجنة، أولم تستنشق عطر الجنة في «الروضة»؟! يعود رمضان عاماً بعد عام، والمحبوبة تغدق على محبيها بهدايا الفرح المخبوء في سبع سماواتٍ! تنثر عطراً يعبق في أرجاء الدنيا، تنشر نوراً في جنبات الأرض! تنشد في أُذِنِ الكونِ فَلاحاً! لتقول .. للدنيا: ما زالت في الأرض حياة .. ما زالت في الأرض حياة!