أحد الكتب المهمة التي صدرت مؤخرا عن دار العين، كتاب للباحث السلوفيني المتخصص في الدراسات الثقافية «سلافوي جيجيك» بعنوان مرحبا في صحراء الواقع «11 سبتمبر وتواريخ مرتبطة به». الكتاب على الرغم من أن موضوعه الرئيسي حدث 11 سبتمبر كحدث تاريخي مفارق فإن الصراع العربي الإسرائيلي يظل دائما هاجس الكتاب، أو بالأحرى هاجس حادث انهيار برجي التجارة، ليس كخلفية للمشهد، ولكن كبنية تحتية للحدث ولأحداث أخرى كثيرة، -خصوصا أن الباحث لا يمكنه رؤية المشهد إلا في ضوء التفاعلات العالمية سياسيا وثقافيا ومع هذا يظل مصدر الجدة في الكتاب هو قراءة ذلك الصراع من منظور الدراسات الثقافية ذات التوجه اليساري. بدلا من «صراع الحضارات» الذي أثاره هنتنجتون منذ سنوات، والذي أصبح مَعْلَما على المستقبل السياسي للعالم، يطرح المؤلف فكرة بديلة وهي «الصراع داخل الحضارات» فهو ينظر للحرب على الإرهاب التي تقودها أمريكا ليس على أنها حرب ضد الآخر، بل هي حرب ضد نفسها، لأن الآخر حسب المؤلف مشمول في الذات الأمريكية، فحسبه فإن الآخر (الأصولي) هو صنيعة الذات الرأسمالية الكونية الممثِّلة للحلم الأمريكي، وعليه لا تكون الحرب بين ضدين وإنما تكون داخل حدود القارة الرأسمالية اليمينية ذاتها. يقول جيجيك «ثمة شيء استثنائي بصدد النزاع الإسرائيلي الفلسطيني: من الواضح أننا نتعامل مع «عقدة الأعراض المرضية» للأزمة الشرق أوسطية. ومصطلح عقدة الأعراض المرضية يمكن استخدامه حرفيا تماما هنا: أليس صحيحا أن الأدوار المعتادة، في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، معكوسة على نحو ما؟، فإسرائيل التي تمثل رسميا الحداثة الليبرالية الغربية تُكسب نفسها المشروعية على أساس هويتها الدينية العرقية، فيما نجد أن الفلسطينيين الذين يجري الانتقاص من قدرهم باعتبارهم أصوليين قبل حداثيين يُكسبون مطالبهم المشروعية على أساس المواطنة»، وذلك بالطبع لأن الجانب العربي الفلسطيني خاض حروبه ضد المحتل منذ 1948 على أرضية الدفاع عن «الوطن القومي» فيما أن المحتل يمارس عنفه ويُشرّعن هذا العنف على أرضية «الوطن اليهودي»، في الوقت الذي يَتهم فيه الفلسطينيين بأنهم أصوليون ما قبل حداثيين متمسكا بصورته الحداثية الديمقراطية، وكأنه يُلفّق لخصمه العربي تهما هو بالأساس الضالع الوحيد بها! على هذا الأساس يبدو النزاع الإسرائيلي الفلسطيني بالنسبة له «نزاع زائف»، ويصفه بال»شرك»، وبلغة الدراسات الثقافية فإن النزاع يصبح في حقيقته «إزاحة إيديولوجية للتناحر الحقيقي». ويرى جيجيك أن المأزق يتحدد في أن الفلسطينيين شأنهم شأن عدد من الدول العربية يريدون «رأسمالية بدون رأسمالية» أي يريدون الانخراط بالنظام العالمي الرأسمالي مع تجنب آثاره الجانبية كالإفراط في التفكك الاجتماعي، وتحلل القيم التقليدية الأبوية والبنية الفوقية للسلطة، وتجنب إفراطات النزعة الفردية، وإضفاء النسبية على القيم، وما إلى ذلك، فإنه أيضا يؤكد أن الاسرائيليين وإن كانوا يمثلون مبدأ التسامح الليبرالي الغربي، فإنهم أيضا يُجسّدون الاستثناء لهذا المبدأ وذلك لأنهم يدافعون عن دولة تقوم على أساس الهوية الدينية العرقية (هذا في بلد به أعلى نسبة من الملحدين في العالم) ويؤكد سلافوي قائلا «الإحالة الإسرائيلية إلى التسامح الليبرالي الغربي هي شكل تبدّي الإرهاب الكولونيالي الجديد لرأس المال، وصيحة اللاحرية الأصولية الرجعية هي شكل تبدي المقاومة لهذا الإرهاب»، ولعل هذه الفكرة هي أفضل ما في قراءته للصراع العربي الإسرائيلي لأنها توضح الكيفية التي يعمل بها الإسرائيليون وهي الإستراتيجية الأمريكية الأصيلة أي حفاظ المُستعِمر على وضعية يكون فيها المستعَمر لا في موقف أدنى فحسب بل وفي موقف الاحتواء في الوقت نفسه، ويدلل على ذلك مثلا بصورة الرئيس الراحل عرفات حين كان محاصرا في رام الله وسط مبان مهدمة بينما تصرخ الآلة الإعلامية الإسرائيلية/ الأمريكية مطالبة إياه بالتهدئة ووقف العنف، أو في المشاهد المتكررة لضرب القوات الإسرائيلية للشرطة الفلسطينية في الوقت الذي تطالبها فيه بمطاردة «الإرهابيين»، كما لو أن الإسرائيليين يرغبون في إحراج الأمن الفلسطيني فكيف يمكنه مطاردة المقاومة الفلسطينية بينما هو نفسه يتم ضربه!هذا الموقف الملتبس يتيح للإسرائيليين احتواء الموقف العربي داخل إطار الموقف الإسرائيلي، وهو الاحتواء الذي تمارسه الإدارة الأمريكية طوال الوقت، بداية من التدخل في باكستان لترتيب الأوضاع بحيث يُترك البرلمان للقوى الرجعية مع تقديم رئيس شبه ليبرالي مسيطر عليه من قبل الجيش الموالي للأمريكان، ومن ثم تضمن الإدارة الأمريكية الحفاظ على مصالحها في المنطقة، لإدراكها أن ديمقراطية كاملة تعني هزيمتها هي نفسها، ومن ثم فإنها ترضى بنصف ديمقراطية لأن نصف ديمقراطية يعني إبقاء الوضع تحت السيطرة.. ويبدو أن تلك حقيقة علينا في العالم العربي أن نعيها جيدا.