وهكذا سقط الإخوان. النهاية سريعة. حلم امتد لعقود، سقط وتبخر فتحول الربيع الإخواني إلى خريف. يوم السقوط كما هو يوم النشأة يوم تاريخي بامتياز. سيذكر التاريخ هذا اليوم بوصفه منعطفاً حاسماً لتراجع درامي لقلعة الإسلام السياسي، حدثنا هذا التاريخ بأن صعود الإخوان هو تعبير عن أزمة، وهكذا كان السقوط في نظر البعض إنهاء للأزمة ذاتها. أُسدل الستار على مسرح البطل الدونكيخوتي، البطل الذي وُلد متأخراً، بطل مثل دونكيخوت، الشخصية الكوميدية الشهيرة التي نسجتها ريشة الكاتب الإسباني سرفانتس، الذي تشبَّع بآداب وتقاليد تجاوزها الزمان، مثله تماماً حاول الإخواني أن يسترد مجداً ضائعاً وعصراً ذهبياً على مقاسه. الإسلام السياسي منهج دونكيخوتي مصاب بتضخم الذاكرة والذات والتاريخ المتخيل، لم يستوعب الإخوان أن العصر قد تجاوز الأيديولوجيات الشمولية والمتعالية، العصر عصر رغيف وحرية، لكن البطل الإخواني، كما هو دونكيخوت، كان ولا يزال منشغلاً بمصارعة الطواحين واستعادة «الفروسية» الضائعة. لم يشكل صعود الإخوان وبالتالي سقوطهم مفاجأة، فبذور الموت كامنة في العقل ذاته، إنه عقل يتقن جيداً كيف يقيم معسكرات مانوية تفصل فصلاً فاشستيا حاداً بين ذات آخذة في التقلص وآخر آخذ في الاتساع، هذا النقاء الذي يرى فيه أتباعه آلية للحماية وتماسك الذات هو عامل التفكك كما يراه القيادي الإخواني المنشق ثروت الخرباوي، وذلك في كتابه «سر المعبد»، حيث كشف فيه خفايا وأسرار التنظيم، ثم نجده كما لو كان يتنبأ بأن ثمة خراباً قادماً لا محالة. نستشف من مذكرات الخرباوي أن صعود قوى التطرف الأمينة لأفكار سيد قطب على حساب المعتدلين، وازدواجية الخطاب، والمفاوضات السرية مع الإدارة الأمريكية، ومحاربة التجديد، والارتباط المشبوه مع الماسونية الماثل في أواصر الشبه بينهما، كما في طقوس التحضير السرية وأممية التنظيم وهيكليته، كلها عوامل شكلت في نظره بداية الخراب للمعبد، وبعيداً عن تقييم قراءته الموثقة حيناً، والموغلة في نزوعها التآمري حيناً آخر، تكمن أصالته في كشفه، ومن الداخل، جرثومة السقوط في الإخوان. إن التنظيم، كما يوضح لنا الخرباوي، اختطفته نزعة كامنة فيه هي نزعة التكفير. لكن الأهم هو الطبيعة الذرائعية والوصولية في الممارسة السياسية، والاستخدام الانتهازي للمفاهيم السياسية الحديثة، فبسبب البطانة التكفيرية في العقل لم يكن بوسع الإخوان القبول التام بالمبادئ الديمقراطية وشروطها. كان جلياً تردد الإخوان في الاصطفاف إلى جانب ثورة 25 يناير، حتى أنهم شاركوا في الحوار الذي دعا إليه النظام ورفضه الثوار بوصفه خشبة الخلاص لنظام مترهل. وكلنا يذكر الدور الأساس الذي لعبته التكتلات الشبابية المؤمنة بالخيار الديمقراطي والمدني في تعبئة الحشود، حشود كانت تتحرك على إيقاع مطالب تشكل في جوهرها مصدر توجس لدى الإسلام السياسي الذي سارع إلى قطف الثمار. كان وصول الإسلاميين للسلطة نتيجة طبيعية للتزاحم بين شرعية ثورية مستمدة من مليونيات ميدان التحرير، وشرعية انتخابية شيدت على خرائب الجهل والفقر المتفشي في المجتمع المصري. التنظيم الإخواني تنظيم تعبوي بامتياز، حشد الجياع لقطف ثمار الجنة وبيع صكوك الغفران. وإذا علمنا حجم الأمية وأحزمة الفقر في مصر، سندرك كيف صعد الإخوان على أكتاف البؤس والشقاء والعواطف التي يسهل بيعها على المُعدمين. ولعل في ذلك ما يؤكد التعالق العضوي بين «التأسيس المدني والتداولي –الديمقراطي» وتوفير الحقوق الأساسية كالحق في التعليم والأمن الاقتصادي، فالتداول الحُر سياسياً يصبح زائفاً أو بلا معنى إن لم يستوعب الأفراد المضمون القانوني والأسس الأخلاقية لهذا التداول. الحياة المدنية تتطلب اقتناعاً متأصلاً في الثقافة، هذا يعني أن كل بناء سياسي يجب أن يسبقه تحوُّل ثقافي واقتصادي، ضمن حيثيات جذرية ينبغي أن تتضمنها كل مرحلة انتقالية. من هنا شكلت حركة تمرد استعادة لثورة 25 يناير وتصحيحاً لمسارها. انتهى زمن مصارعة الطواحين واستعادة الفروسية الضائعة، حاكمية المودودي وتكفيرية سيد قطب لا مكان لها في بلد النهضة وهوليود العرب، الخطاب الأحادي الاستئصالي لا يمكن أن ينسجم مع مجتمع متعدد. المجتمع المصري مجتمع متدين، هذا صحيح، لكنه تدين محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد، لا ذلك التدين الخوارجي الدونكيخوتي كما هو عند المودودي وسيد قطب وأتباعه الأوفياء. إن مصر النهضة والفنون ليست هي تورا بورا ولا المحاكم في الصومال، هكذا تريد أن تقول حركة تمرد. سيرتبط سقوط المعبد بانحسار الإسلام السياسي الذي يتخذ من فكر المودودي مرجعية له، وسيعيد إلى الأذهان تراجع الأممية الشيوعية، وانهيار الأحلام الطوباوية التي رسخت الأنظمة الشمولية ومعسكرات الاعتقال، هل سيشكل الثلاثون من يونيو حدثاً مفصلياً في تاريخ جماعات الإسلام السياسي؟ هل نشهد سقوط عربي لجدار برلين؟ لقد دشنت إمبراطورية الإخوان البداية المأزومة لكل التيارات الإسلامية الساعية إلى تمكين الحاكمية، فهل سيمثل خراب المعبد المسمار الأخير في نعش الإسلام السياسي؟ يبدو واضحاً أن نهاية الإخوان في مصر إيذان بفشل مشروعها الأممي، الأمر الذي نستشفه في الانحسار الوشيك لفروعها في أكثر من بلد عربي وإسلامي، مؤشرات الانحسار والإفلاس ونذر الموت بدأت مع شح المواعيد وزيفها. تعب الإنسان العربي من الوعود المؤجلة ومصارعة الطواحين، وتحريف اتجاهات البوصلة، وتعب من الأبواب الموصدة والأسيجة المقدسة التي تحول دون التعددية والتنوع والفردنة، وسأم في الآن نفسه من العود الأبدي للقمع عبر استبداله بآخر. وكل ما تريد أن تنتزعه حركة تمرد من العسكر أو الإخوان، ليس أكثر من حقوق وعدالة اجتماعية في الداخل، وسيادة واستقلال في الخارج، أما «المعبد» فله رب يحميه.