في بيئة يغيب عنها العلم، تنتشر الخرافة بسرعة ويصبح الغيب هو المحرك الأول للعقل. حينها يكون الإيمان بما يعتبر مسلّمات غيبية أهم بكثير من بحث الواقع العلمي والعملي، ويتم تفسير الظواهر الطبيعية تفسيراً خرافياً أو ميثولوجياً، كما يتم إهمال أية محاولة لإثبات فرضية تلك الغيبيات بشكل علمي. أما التشكيك فيما يعد ثوابت ، أو محاولة البحث عن الحقيقة فذلك أشبه بالكفر والإلحاد، والخروج عن نواميس الطبيعة. في عصور الظلام وما تلاها من القرون الوسطى، كان العالم الغربي يعيش غيبوبة فكرية وعلمية وصلت إلى حد قتل كل من يتبنى نظرة جديدة لا توافق الفهم الكاثوليكي للحياة، مما أدى إلى تخلف حضاري عميق لحق العالم الأوروبي وأبقاه لقرون طويلة في مؤخرة ركب الأمم. في مقابل ذلك كانت دولة الأندلس منارة للعلم والثقافة والأدب في أوروبا، حتى أن فلاسفة وعلماء ذلك العصر وخريجي الجامعات العريقة كأكسفورد كانوا يحثون الخطى نحوها للنهل من بحر علومها. وعند الحديث عن أسرار ذلك التفوق العظيم، لا يمكن أن ننحي الحرية جانباً، ففي الأندلس كانت جميع العلوم متاحة وحرية البحث تفوق بكثير العالم الغربي والشرقي، لذلك فقد كانت بيئة خصبة لبزوغ العلوم والفنون والآداب، حتى تفوق المسلمون في علوم الفلك والفيزياء والفلسفة والموسيقى والطب وغيرها. ولأن البحث فيما وراء المسلّمات وسبر أغوار العلوم لتفسير كل شيء، كان تهمة لا تغتفر منذ أيام الإغريق، فقد قُتل سقراط بسبب علمه وفلسفته، ولم تحل عبقرية غاليليو وابتكاراته العظيمة دون ملاحقته بتهمة الهرطقة في عصور الظلام، في حين كانت تهمة الزندقة تفتك بابن المقفع وغيره من الفلاسفة والعلماء في المشرق. لا يمكن لمنصف أن ينكر أن عبقرية الغرب وإبداعه في العصور المتأخرة ظهرت حين تحرر من كل القيود المعرفية، وتخلى عما اعتبرها مسلّمات لا يمكن مناقشتها، فأعاد التفكير في كل شيء، وشكك في كل شيء لا يمكن إثباته نظرياً أو عملياً، وكانت هذه أولى شموع العلم التي أوقدتها الحرية. ولكي نلحق الركب، يجب أن نتحرر أولاً من سطوة الأفكار البالية التي ورثناها، ونحرر عقولنا من مستعمرها، ثم نطرح الأسئلة. الذين يطرحون الأسئلة هم الذين يفجرون الدنيا، وهم أكثر الناس خطراً، سؤال واحد قد يكون أخطر من ملايين الأجوبة. وحتى لا نعود إلى عصر ما قبل فلاسفة الإغريق، حين كان العالم يفسر كل شيء تفسيراً أسطورياً كصراع بين آلهة الخير وقوى الفوضى، وحتى لا نفقد ما بقى من العقل العربي، فإننا بحاجة ماسة إلى إعماله من جديد، وإيقاد شمعة صغيرة تحرر أفكارنا من سلطة التسليم المطلق، لتنتقل إلى دائرة الشك في كل ما يمكن الشك فيه. حدسك الشخصي قد يخدعك، والموروثات التاريخية من أكثر الأشياء التي يجب ألا تثق بها، الغالبية سيدوّنونها ويحرفونها لتتفق مع وجهة نظرهم الشخصية. لذا فالطريقة المثلى للتأكد من صحة أية مزاعم هي إزالة هالة القدسية التي تحيط بها ثم إخضاعها للتجربة على طاولة الفحص. ولكي تصل إلى اليقين، فإن عقلك هو الشيء الوحيد في الكون الذي ينبغي أن تثق به.