هناك رجال لهم أنفس تواقة إلى البحث والبرهان لا تمل التساؤل والتفكر والتأمل والوصول إلى معرفة الله والإيمان به والخضوع لمشيئته والوصول إلى التوازن النفسي والسلام الداخلي، جمعوا بين موازين العقل ونفحات الروح، وجعلهم الله لغيرهم منابع نور وإيمان. من هؤلاء أبو حامد الغزالي الذي يعد أحد النماذج الفريدة وصاحب تجربة معرفية طويلة وشاقة استغرقت عمره كله قائمة على التساؤل، خرج بها من أتون الأحكام الفلسفية والعقلية والفقهية الصارمة والمقبولة. كتبه التي ألفها لم تكن بقصد التعليم بل لمحاولة الإجابة على تساؤلاته الفكرية العميقة. ويرى أنه يجب على طالب المعرفة أن يشق رحلة معرفية صادقة وطويلة يتمكن بها في نهاية المطاف من تهذيب نفسه وإصلاحها قبل محاولته إصلاح غيره. وقد كتب كتاب «إحياء علوم الدين» أثناء تنقلاته وأسفاره. ويمتاز الغزالي بتلقائية في التعبير دون تكلف الألفاظ، لأن همه ركز على المعاني وتحقيقها دون الألفاظ وتلفيقها. وبتجربته العميقة وتساؤلاته المستمرة وصل إلى فلسفته الشبيهة بفلسفة الفيلسوف الإنجليزي «هيوم» القائمة على النقد، وتعداها بصياغته لمنهج أخلاقي راسخ، ووصل إلى حقائق علمية اكتشفها العلم اليوم مثل حقيقة أن الزمان والمكان نسبيان وهما علاقة بين الأجسام (الزمن هو نسبة موقع الأرض بالنسبة للشمس). وينبه الغزالي إلى الوظيفة النفسية والاجتماعية للعبادات، وحذر من جعل العبادات قوالب وحركات آلية خالية من الروح وفهم الأسرار من ورائها. ولو أدركنا هذه الأسرار لما زادت نسبة الملحدين في العالم الإسلامي كما ذكر معهد غالوب في تقريره عن الإلحاد في العالم مؤخراً. علينا الاعتراف بوجود خلل منهجي فكري واضح في طريقة تعاملنا مع الدين والعبادات حيث إن الخطاب الديني التقليدي القائم على الوعظ والأحكام الفقهية الفرعية التفصيلية لم يعد قادراً على استيعاب الأسئلة الكبرى التي يتساءلها البعض خاصة النابهين والأذكياء الذين تلقى تساؤلاتهم استنكاراً وتجاهلاً بحجة المحافظة على العقيدة الإسلامية صافية مع أننا نجد أن القرآن الكريم يحاور الملحدين بالحجة والبرهان. ومن يتأمل السور المكية في القرآن يشاهد ذلك واضحاً أمامه.