في تاريخ الأدب الإنساني، لا تكاد تخلو حقبة زمنية من صراعات بين الفلاسفة والأدباء الذين عاشوا فيها. وفي تاريخنا العربي، خصوصاً في النصف الأول من القرن العشرين، امتلأت الساحة المصرية، التي كانت آنذاك البوابة الكبرى للثقافة العربية، بعشرات المعارك والمشاحنات التي دارت بين أعلام الأدب العربي، وكان أكثر أولئك الأعلام شغباً هما عباس العقاد وطه حسين، اللذان كانا شديدي النقد، لا تفوتهما قصيدة أو مقال أو قصة دون أن ينتقداها نقداً أدبياً لاذعاً. وكانت خصومة العقّاد لأحمد شوقي هي الأكثر بروزاً، حيث ذكر بعض الباحثين أن العقاد كان يغار من شوقي، لا لكونه من الطبقة الأرستقراطية، ولكن لكونه أكثر بلاغة منه. ولستُ هنا في معرض المقارنة بين الرجلين، فلقد أشبع النقّاد هذا الموضوع بحثاً وتفصيلاً، ولكنني توقفتُ عند حادثة جرت بعد وفاة شوقي بعشرين عاماً، ذكرها أنيس منصور، عندما هاجم العقاد شوقي في محاضرة بالجامعة الأمريكية، ولما سُئِل عن ذلك قال: «إنني أحسن حالاً من الذين يُدافعون عن شوقي، هم يرونه قد مات، وأنا أراه حيّاً». فوجدتُ في هذه الكلمات كثيراً من التبجيل لشوقي، واعترافٌ «فلسفي» غير مباشر بمكانته الأدبية. وعلى الرغم من أن سجالات أدباء تلك المرحلة لم تخلُ من بعض الشتائم، إلا أن الحصيلة النهائية كانت كتابات عظيمة لأدباء عِظام، علّمونا في اختلافهم أكثر مما علمونا في اتفاقهم.إن النّقد غير المبني على أسس علمية، أي المبني على نزعات شخصية، له عدة أسباب، أهمها الغيرة أو الجهل، وإن اجتمعا، نتجت ظاهرة التعصب الفكري التي نراها كثيراً في أيامنا هذه. فالعارِف تدفعه الغيرة إلى العمل أكثر، حتى وإن شتت انتباهه انشغاله بعيوب خصمه، إلا أنه يستمر في سعي دؤوب للتفوق عليه. أما الجاهل، فإنه يندفع إلى الشتم، والتقليل من شأن الخصم، ورميه بما ليس فيه، والخوض في شخص المنتَقَد لا في فكره. يقول الكاتب الليبي الراحل الصادق النيهوم في هذا الشأن: «التعصب ظاهرة من ظواهر الثقافة المتخلفة، إنه نوع من الصراع الفكري الذي تعيشه تلك الثقافة وتعتمد عليه للدفاع عن نفسها ضد أي تيار من الخارج، فالعقل غير المثقف لا يحتمل النقاش.. لأنه عاجز عن أن يثق في إمكانياته المحدودة، والحل المتوقع أن يغمض عينيه ويصدمك بعظام جبهته مثل كبش مدرب على النطاح...». وهذا ما يحصل لكثير من المثقفين اليوم، فلا يكاد يبرز نجمٌ جديد إلا وسعى كثير من الناس لتحطيمه وإطفاء نوره، حتى وإن كانوا يتابعونه على شاشات التلفاز، ويقرأون كل ما يكتب، ويتفاعلون معه في شبكات التواصل الاجتماعي، فما إن يخطئ حتى يصير عدوّ الشعب الأول. يظن البعض أن المثقف نبيّ معصوم؛ يمارس كل ما يدعو إليه، وهذا خطأ فادح. فبعض المثقفين يكتبون ما يريدون أن يكونوا عليه، ويدعون لأشياء ربما عجزوا هم عن تحقيقها، ولكن ذلك لم يمنعهم من الدعوة إليها. هذا ليس تناقضاً مع الآية الكريمة: «أتامرون الناس بالبِرّ وتنسون أنفسكم»، لكنه أقرب إلى قوله تعالى:»ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا...». ومن سذاجة المجتمع أن يُطالب أو يحلم بمثقفين تخلو سجلاتهم من أخطاء وتجاوزات. قرأتُ مرة قولاً ولا أدري لمن هو ولكنه أعجبني جداً: «من منكم لم يخطئ؟ فليرفع يده حتى ننصبه نبياً علينا».إن من أجمل خصومات التاريخ هي تلك التي دارت بين فيلسوفي عصر التنوير في فرنسا، فولتير وجان جاك روسو، حيث كان الأول أرستقراطياً محظياً لدى السلطة على رغم انتقاده لها، وكان الآخر يسارياً فقيراً. وعندما برز روسو وأعجب به الناس، غار منه فولتير وأرسل له رسالة يقول فيها: «لقد تلقيت كتابك الجديد يا سيدي، والذي تهاجم فيه المدنية والعلوم والآداب، وأشكرك على إرساله. لم يقم أحد بمثل هذه المحاولة التي تحاول فيها تحويلنا إلى وحوش وحيوانات». ولكنه قال له أيضاً: «أنا لا أتفق معك في كلمة واحدة مما قلتَ، ولكني سأدافع عن حقك في الكلام وحرية التعبير عن أفكارك حتى الموت». وبعد أن أثقل عليه في مرات أخرى، كتب إليه روسو: «أنا باختصار أكرهك، لأنك هكذا شئت، ولكن أكرهك بمشاعر إنسان مازال في وسعه أن يحبك لو كنتَ قد رغبت في حبي. ولم يبق من جميع المشاعر التي امتلأ بها قلبي نحوك سوى الإعجاب بعبقريتك الرائعة وحب لكتاباتك».وعندما تقدم به العمر وضع فولتير كتاباً بقلم مجهول، سمّاه «عواطف المواطنين» أهان فيه روسو إهانات قبيحة واتهمه في عِرضه، فما كان من روسو إلا أن كتب إليه: «حين يحضرني الموت، أؤثر أن أكون قد ارتكبتُ ما يتهمني به المؤلف، وأن تكون بي ما ذكر من عيوب، على أن أكون كاتباً لهذا الكتاب».. عندما يشتمك الناس، فلا يهم أن تدافع عن نفسك، والمهم أن تظل مؤمناً بها.