أحمد إبراهيم البوق – مدير عام المركز الوطني لأبحاث الحياة الفطرية في الطائف لم يدُر في خلد امرئ القيس وهو على ظهر حصانه الذي حطه السيل من علٍ، وهو يعادي عداء بين ثورٍ ونعجة، أن أحفاده القادمين لن تتكحل أعينهم برؤية المها العربي يزين صحراء الجزيرة العربية، وأنهم لن يروا بعَر الآرام في عرصاتها، وأن سمرات الحي وحنظله ستصبح مثله خبراً في بطون كتب الشعر والتراث، إن المتتبع لانعكاس الحياة الفطرية نباتها وحيواناتها في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي، يدرك أن تلك الحميمية التي ربطت الإنسان بالطبيعة وانعكست على إثراء اللغة والمخيّلة والصورة الشعرية باتت مع الوقت أبعد ما تكون عن سيرتها الأولى. حين ابتعد الإنسان عن سكنى الصحراء وانتقل إلى المدن، بدأت القطيعة بينه وبين مكونات الطبيعة، التي كانت تمثل جزءاً من حياته لا يتصور العيش من دونها، ولذلك اخترع رحلات البر والصيد ليعيد لنفسه التوازن بالانسجام مع الطبيعة، الصيد إذا لم يكن هدفاً بذاته بعد أن ذاق الإنسان رغد العيش في المدن، كان وسيلة للخروج إلى البرية للترويح عن النفس في فضاء ممتد وزاخر بالتنوع، كان وسيلة للمعرفة بأحوال الناس والقبائل ونباتات الصحراء وحيواناتها ومواسمها. هذه المعرفة –كما أسلفنا- انعكست على ثراء اللغة والمخيلة الشعرية. فحين نعرف أن للأسد أكثر من 500 اسم، وأن للنعام أكثر من مائة اسم، ندرك كم كان انعكاس هذه الكائنات كبيراً لإثراء معجم اللغة العربية لفظاً ومعنى. وتلك المشاهد البرية التي انعكست في إثراء المخيلة الشعرية كان الإنسان حريصاً عليها قدر حرصه على الحب والخير والجمال. مشاهد الطبيعة في اللغة بكل مستوياتها من الاستعارة إلى التوصيف، ومن الرمز إلى الأنسنة. تتحول الكائنات في القصيدة إلى بشر يؤنسون وحشة الصحراء. فهذا حميد بن ثور الهلالي الذي تمتزج عنده صورة شجرة السرح بالمرأة الفاتنة في قصيدته الشهيرة: علا النبت حتى طال أفنانها العلا وفي الماء أصلٌ ثابت وعروق وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة من السرح مسدود عليّ طريق وقبله الشنفرى الذي يستبدل الوحوش بأهله. حين استبعدته القبيلة احتوته الوحوش: ولي دونكم أهلون سيدٌ عملّس وأرقط زهلول وعرفاء جيئل هم الأهل لا مستودع السرِّ ذائع لديهم ولا الجاني بما جرّ يخذلُ ومثله خاله ورفيقه في الصعلكة «تأبط شراً» وهو يخاطب الذئب: فقلت له لما عوى إن «ثابتاً» قليل الغنى إن كنت لما تموّل كلانا إذا ما نال شيئاً أفاته ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل أما عبيد بن أيوب العنبري، فيرى أن بينه وبين الظباء علاقة نسب من كثرة مخالطته لها واستئناسها له: كأني وآجال الظباء بقفرةٍ لنا نسب ترعاه أصبح دانياً رأين ضرير الشخص يظهر تارة ويخفى مراراً ناحل الجسم عارياً فأجفلن نفراً ثم قلن ابن بلدةٍ قليل الأذى أمسى لكن مصافياً وغيض من فيض تلك الشواهد التي سأختمها في هذه العجالة بعلاقة القتّال الكلابي بالنمر العربي في جبال الحجاز: ولي صاحب في الغار هدّك صاحباً هو الجون إلا أنه لا يعلل إذا ما التقينا كان جل حديثنا صمات وطرف كالمعابل أطحل تضمنت الأروى لنا بطعامنا كلانا له منها نصيب ومأكل تلك الشواهد كانت تعكس طبيعة العلاقة الحميمة بين الإنسان في الجزيرة العربية وبين مكوناتها الفطرية، وهي منذ الأزل شكلت مصدراً اقتصادياً وطبياً وثقافياً وجمالياً حرص الإنسان على بقائها واستمرارها. وإن ما نشاهده عبر وسائط الإعلام التقليدي والحديث بين وقت وآخر من مشاهد مخجلة لاحتطاب شجر أخضر ويابس، وصيد حيوانات أقرب للإبادة منه للصيد المنظّم والمرشّد، لهو دليل على الفجوة الهائلة بين الإنسان والطبيعة، فقدت معه تلك الفئة الممارسة لهذا التدمير الفطري أهم مقومات إنسانيتها. إذ تتصادم تلك التصرفات غير المسؤولة مع القيم الدينية التي تجعل من التوازن الطبيعي أحد مقومات الحياة الصحية، هؤلاء الناس جهلوا تلك القيم الاقتصادية والطبية والثقافية والجمالية في تنوع الحياة الفطرية، التي لا تتحقق إلا باستمرارها وديمومتها. وأن الوعي وحده لا يكفي لإيقاف تلك الممارسات الخاطئة بحق مخاليق الله الأخرى من أشجار وحيوانات، بل إن الصرامة في تطبيق الأنظمة وتجريم تلك الأفعال جزء من منظومة الحلول الشاملة، فلم يحدث منذ العصر الحجري إلى اليوم أن تدهور التنوع النباتي والحيواني وتسارع معدل الانقراض مثلما يحدث في الجاهلية المعاصرة في الوقت الحالي.