تكتسب الموجة السابعة من هذا الاستطلاع أهمية خاصة في كونها قد أنجزت في لحظة مفصلية من مسار المرحلة الانتقالية، وذلك بعد استقالة الحكومة الثالثة برئاسة السيد حمادي الجبالي، وبداية مشوار الحكومة الحالية التي يفترض بأن تكون الأخيرة قبل تثبيت الشرعية من خلال تنظيم انتخابات رآسية وبرلمانية. كما أن هذا الاستطلاع يتنزل في أعقاب حادثتين على غاية من الخطورة والأهمية. تعلقت الأولى بالاعتداء على مقر الاتحاد العام التونسي للشغل في مناسبة رمزية خاصة بذكرى استشهاد الزعيم فرحات حشاد، وتمثلت الثانية في اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد. وهو ما يجعل من نتائج هذا الاستطلاع فرصة لجميع الأطراف لكي تراجع حساباتها، وتعدل من مناهج عملها واستراتيجياتها، وتفكر جيداً في مصيرها وفي مستقبل العملية السياسية برمتها. وإذ تُعد كل المحاور التي غطاها الاستطلاع على غاية من الأهمية، إلا أنه لأسباب موضوعية، نكتف بالتوقف عند البعض منها: أولاً: تدعم نتائج الاستطلاع القول إن ممارسة السلطة خلال سنة ونصف السنة كانت كافية لتلحق أضراراً فادحة بجميع أحزاب الائتلاف الحاكم، الذي فقد الكثير من مصداقيته بسبب محدودية قدرته على تحقيق وعوده ومعالجة الصعوبات العديدة التي أفرزها واقع ما بعد الثورة. وإذ لا تزال حركة النهضة تتصدر المشهد الحزبي، على الرغم من التراجع المتوقع لحجمها الانتخابي، وذلك لأسباب تاريخية ودينية وسياسية، إلا أن حليفيها حزب المؤتمر والتكتل يتجهان نحو التحول إلى حزبين صغيرين في خارطة حزبية مرشحة لتشهد تغييرات واسعة في تضاريسها خلال المرحلة القادمة. إذ بقدر ما وفرت مشاركتها في الحكم فرصة للحديث عن تجربة جديدة ، إلا أن دورهما في تفعيل هذا الائتلاف كان ضعيفا، مما تسبب في إحداث تصدعات داخل هياكلهما، ودفعت بجزء لا بأس به من ناخبيهم إلى الانقلاب عليهما.وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن نسبة ممن يثقون في الرئيس منصف المرزوقي بشكل قوي، لا تتجاوز 13 % وأن من لديهم إحساس بمستوى متوسط من الثقة، لا تتجاوز نسبتهم 29 %. لو تراجعت ثقة التونسيين في المستقبل ونزلت إلى حدود 65 % « وهي النسبة الأدنى منذ أوت 2011 «. وبالتالي فإن نتائج هذه الموجة فيما يتعلق بمستويات الثقة الفردية في المستقبل « تعكس حالة القلق التى تنتاب قطاعا واسعا من الرأي العام بات يخشى على مستقبله في ظل ضبابية الوضع السياسي والمخاوف الأمنية والاجتماعية المتصاعدة «. ثانيا : أكد الاستطلاع أيضا خيبة أمل الجزء الأكبر من شريحة الشباب في معظم مكونات المشهد السياسي. لقد فشلت إلى حد الآن السلطة والمعارضة في تلبية تطلعات هذا الشباب، الذي راهن كثيرا على مرحلة ما بعد الثورة، فوجد نفسه مقصيا مرة أخرى من دوائر صنع القرار، وغير مستفيد بدرجة ملموسة من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجديدة، وهو ما من شأنه أن يعمق من سلبيته. ثالثا: لا تزال وسائل الإعلام تشكِّل المصدر الرئيس للحصول على المعلومة لدى عموم التونسيين، وذلك على الرغم من مظاهر الخلل التي تعاني منها الممارسة الإعلامية، والنقد الشديد الذي توجهه أطراف عديدة للصحافيين. كما أن تراجع الإقبال على الصحف مسألة كانت متوقعة نظرا للأزمة الحادة التي يعاني منها هذا القطاع، لكن مع ذلك فإن الحديث عن وجود رأي عام تونسي قد تجسد اليوم على أرض الواقع بفضل الديناميكية الكبرى التي يشهدها حاليا الإعلام المحلي. لقد عبر 3 من كل 4 تونسيين عن مواصلة اهتمامهم بالشأن السياسي. لكن ما يلاحظ تراجع الاهتمام بالصحافة المكتوبة كمصدر للمعلومات السياسية. رابعا: يوفر الاستطلاع معطيات مهمة من شأنها أن تشكل خارطة أولية عن التوزيع الجغرافي للقاعدة الانتخابية لأهم الأحزاب الفاعلة. وهي مسألة في غاية الأهمية، لأنها من جهة تكشف نوعية الجمهور الموالي لهذا الطرف أو ذاك، وتحدد بالخصوص القاعدة الانتخابية التي ستستند عليها هذه الأطراف خلال الاستحقاق السياسي القادم. ولعل من أهم ما يلفت النظر في هذا السياق الإشارة إلى المسافة التي أخذت تتسع يوما بعد يوم بين حركة النهضة وبين جزء مهم من النخب الحديثة والمتعلمة، وهي ظاهرة شبيهة أيضا بما يحصل مع الإخوان المسلمين والأحزاب السلفية في مصر، الذين تعزز حضورهم في معظم المناطق الريفية، وفي الأوساط الأقل تعلما، مقابل تراجعهم الملحوظ في المدن وفي القطاعات الحديثة. خامسا: جاء الاستطلاع أيضاً ليعكس بشكل درامي تدهور صورة المجلس الوطني التأسيسي. ويعود ذلك إلى أسباب متعددة تمت الإشارة إلى بعضها في المقدمة، ولعل من أهمها خيبة أغلب المواطنين في أداء من أعطوهم ثقتهم، وتجندوا يوما كاملا من أجل انتخابهم في 23 أكتوبر 2011. لقد فوجئ الناخبون بتدهور خطاب جزء لا بأس به من النواب، وبصراعاتهم المستمرة. كما ازدادت هذه الصورة سوء بعد اللغط المتجدد حول مسألة الأجور والمنح. هذا اللغط الذي تحول إلى سلاح استعمله النواب ضد بعضهم البعض. كل ذلك وغيره، غطى على الجهود المهمة التي بذلت داخل لجان المجلس والتقدم الذي حصل في صياغة الدستور. وقد زاد الأمر استفحالاً بسبب عدم امتلاك المجلس سياسة إعلامية شفافة وفعالة. وبذلك دخل المجلس في أزمة أخلاقية مع جمهوره، فغاب بسبب ذلك عامل القدوة الذي يشكل عنصرا مهماً في عملية بناء الثقة، خاصة في مرحلة انتقالية جاءت في أعقاب ثورة شعبية. لقد عبَّر سبعون % من المستجوبين عن عدم ثقتهم في المجلس التأسيسي. سادساً: لعل من أهم الظواهر الإيجابية التي كشف عنها هذا الاستطلاع هو الثقة المتزايدة في دور منظمات المجتمع المدني. 77 % من التونسيين عبَّروا عن ثقتهم في منظمات المجتمع المدني، ويشكل هذا المستوى العالي من الثقة عنصرا حيويا في المرحلة السياسية الجديدة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن التحدي الأساسي اليوم هو التوصل إلى بناء مجتمع مدني حقيقي وفاعل ومشارك، لأن ذلك يُعد شرطا أساسيا في إقامة نظام ديمقراطي قائم على توزيع القوة، وتجنب احتكار السلطة بمفهومها الواسع، وهو الشرط الأساسي للحيلولة دون إعادة إنتاج المنظومة الاستبدادية.