عبداللطيف الوحيمد طل علينا مهرجان الجنادرية في دورته الثامنة والعشرين مكتسياً حلةً قشيبةً تتجدد عاماً بعد عام في رونقها، محافظةً على أصالة محتواها من الموروثات الشعبية التي يعتز بها أبناء هذه الأمة، واهتمام أية أمةٍ من الأمم بتراثها الأصيل وماضيها المشرق إنما يدل دلالةً واضحةً على ما يتصف به أفرادها من وعيٍ عميقٍ وإدراكٍ قويٍ ونظرةٍ ثاقبة؛ لأن ربط الحاضر بالماضي سيمكن أجيالنا من الاطلاع على الصور المضيئة التي يزخر بها تراثنا الذي شارك في بنائه علماء الأمة ومفكروها وأدباؤها على مر العصور منطلقين في تصوراتهم من هدي الإسلام وتعاليمه السمحة. ونحن في المملكة نملك رصيداً ضخماً يستحق أن يدرس ويقدم للأجيال كل ما هو مفيد ونافع منه؛ ليضمن لهم انطلاقةً مباركةً ومسيرةً مأمونةً بإذن الله، ومن هذا المنطلق جاءت فكرة هذا المهرجان الوطني للتراث والثقافة الذي تنظمه رئاسة الحرس الوطني التي حرصت منذ دورته الأولى على أن تكون جوانب الحياة الذاتية ماثلةً في جنباته وذلك ببناء قريةٍ للتراث تتجسد فيها أساليب حياة الأجداد وتراثهم. وعاماً بعد عام وبمشاركة جميع مناطق المملكة اكتسبت عناصر التراث المعروضة في المهرجان شمولاً يعكس التنوع والثراء التراثي الذي تتسم به هذه المناطق، وهكذا نما وأصبح مهرجاناً سعودياً خليجياً عربياً عالمياً وانضم إلى قائمة المهرجانات التي تلعب دوراً مهماً في بحث قضايا الثقافة وتعميق الروابط بين المثقفين وربط حاضر الأمة بماضيها ومستقبلها، ومنذ يوم 2/7/1405ه الذي تفضل فيه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز يرحمه الله بتشريف الجنادرية وافتتاح وقائع وفعاليات المهرجان الأول أصبحت الجنادرية وعداً وميعاداً للثقافة والتراث والمثقفين والأدباء والعلماء العرب والأجانب يلتقون فيه بإخوانهم السعوديين. ويعد هذا المهرجان مناسبةً تاريخيةً ومؤشراً عميق الدلالة على اهتمام قيادتنا الحكيمة بالتراث والثقافة كما تعد إقامته مناسبة وطنية يمتزج فيها عبق تاريخنا المجيد بنتاج حاضرنا الزاهر، ومن أسمى أهداف المهرجان التأكيد على هويتنا العربية والإسلامية وتقاليدنا وقيمنا الأصيلة وتأصيل موروثنا الوطني بشتى جوانبه والحفاظ عليه ليبقى ماثلاً للأجيال القادمة، وتوطئةً لتحقيق هذا المنال السامي ذللت حكومتنا الرشيدة الصعاب ووضعت الإمكانات اللازمة رهن إشارة القائمين على تنظيم المهرجان لتتسابق كافة قطاعات الدولة على المشاركة في النشاطات المعتمدة كل عام. يقول الباحث خالد بن محمد السالم في كتابه (الجنادرية ماضٍ وحاضر) تراث الشعب هو تلك الجوانب الغائبة الحاضرة من حياة الأجداد، هو ثقافة الأمس بمعناها الواسع تشمل طرائق التفكير وأساليب التعبير وإبداعات العمل والسلوك وأنماط الحياة المختلفة ومهما كانت درجة التطور التي يصل إليها أي شعب فإن المرحلة التي يصل إليها من التقدم الحضاري لا يمكن أن تكون مقطوعة الصلة بتراثه؛ ذلك لأن التراث يسري في حياة الأجيال المتوالية وينتقل بينها ويدخل بطرائق مختلفة في تشكيل نمط حياتها الجديد، وفي عالمنا المعاصر الذي أصبح فيه بفعل وسائل الاتصال كقريةٍ صغيرةٍ فإن تراث الشعوب هو الذي يضع حداً فاصلاً بين شعب وآخر، ويعطي لكل أمةٍ خصوصيتها وقد كان الحفاظ على التراث والتعريف به وعدم التنكر له سمةً دائمةً من سمات الشعوب الحية الجديرة بالبقاء، حيث يقوم الآباء بتعريف الأبناء بتراث الأجداد وبهذا يحدث التوازن المنشود بين التطور الحضاري والحفاظ على الأصالة، وبهذا يطوع التطور الحضاري أخلاق الشعب وقيمه المتوارثة. ويؤكد السالم على أن المهرجان في سعيه إلى تعريف الأجيال الحالية بتراث الآباء والأجداد حاول محاولةً فذةً وهي إعادة تكوين الماضي أو بمعنى آخر تجميع وحداتٍ جزئيةٍ من حياة الأجداد لكي نحصل في النهاية على صورةٍ حيةٍ لحياة هؤلاء ويتساءل حقاً كيف كان أولئك الأجداد يعيشون؟ وكيف ومن أين كانوا يحصلون على طعامهم وشرابهم؟ وكيف كانوا يواجهون حاجات حياتهم المختلفة؟ كيف كانوا يعلمون أبناءهم؟ وكيف ينتقلون من مكانٍ إلى آخر؟ وكيف يتحاربون وبأي سلاح؟ فعلى أرض الجنادرية وبدون كلام أو وصف أو شرح صورة حية لحياة أولئك الأجداد ومختلف ممارساتهم في شتى جوانب الحياة من صناعةٍ وزراعةٍ وأعمالٍ حرفيةٍ ومهنيةٍ وتعليميةٍ ورياضيةٍ وفنية إنها حياة متكاملة يؤدي بعضها إلى بعضها الآخر.