نشرت مجلة فرنسية خبراً يدعو للتأمل عن حالة سيدة تدعى «بييري»، تسكن منطقة «لوردز» الفرنسية، إذ كانت السيدة أصيبت بالعمى بسبب ضمور الأعصاب البصرية. وقد قال الأطباء الذين أشرفوا على الفحوصات على مدى أشهر أن الأمر ميؤوس منه. لكن العجيب أنها تمكنت من استعادة بصرها بشكل أذهل الأطباء أنفسهم. فقد عادت السيدة بعد شهر من فحصها الأخير بكامل بصرها سليماً معافى بعد العمى، وقد استعاد العصب البصري عمله الطبيعي تماماً. كيف حدث ذلك؟ هذه الإجابة كانت تدور حول السيدة بييري نفسها، هي التي كانت تمتلك طاقة عظيمة، وثقة في مجابهة الأزمة. فقوة عقلها الباطن وإيمانها وتفاؤلها بالشفاء جعل عقلها الباطن يستجيب لهذا الجبروت من القوة، فأطلق سراح «قوى الشفاء الكامنة داخلها». العقل الباطن، اللا واعي، هو مركز العواطف والانفعالات، ومخزن الذاكرة الذي يتحكم في الطاقة الجسدية والنفسية وبيده توجيهها. هو الذي لا يعقل الأشياء كالعقل الواعي، فهو ببساطة يخزن المعلومات ويستجيب للرسائل. وهو عبارة عن مجموعة من العناصر التي تتألف منها الشخصية، بعضها قد يعيه الفرد كجزء من تكوينه، والبعض الآخر يبقى بمنأى كلي عن الوعي. وهو أيضا مخزن الخبرات والاختبارات المترسبة بفعل الكبت النفسي. ويحتوي العقل الباطن على المحركات والمحفزات الداخلية للسلوك، كما أنه مقر الطاقة الغريزية الجنسية والنفسية.هكذا هو العقل الباطن الفردي، الذي ببساطة بديهية يكون المجتمع. والمجتمع إذا ما كان أفراده صحيحي العقل الباطن إجمالا على الأقل وتجاه العموميات، فإن ذلك يظهر على السطح في شكل ثقافة مجتمعية. لطالما كنت أتأمل جلد العربي لذاته، وهو ما قد يكون نتيجة الإحباطات التي مر ويمر بها. فقصائدنا وأغانينا الوطنية العربية، على سبيل المثال، لم تستطع تماماً أن تزرع طاقة العقل الباطن، التي تؤسس ثقافة الثقة بالنفس وبالذات. وكثيرا ما يستشهد العرب بأبيات متخاذلة عن جهلهم وخذلانهم كأضحوكة أمام الأمم. فأصبح العربي عامة عبارة عن طاقة موجهة إلى الخارج علمياً وثقافياً وحضارياً. أصبح الأفراد في عقولهم الباطنة يشعرون بالقلة والنقص، مقابل اعتزاز الأجنبي بذاته ومقدراته وثقافته وصناعته. وهذا ما يلزم على أية حال أن يجعلنا نتأمل ونعيد النظر في ثقافة العقل الباطن الشعبية ونصنعها، متطلعين إلى ثقافة متجددة حيوية نابضة بالثقة والتقدير.كثر حديث الباحثين في السنوات الأخيرة حول أهمية تنمية العقل الباطن، من خلال إرسال رسائل محفزة إلى النفس لتترسب فيها القوة على مواجهة العقل الواعي. إذ من خلال تنمية العقل الباطن، يستجيب الوعي تلقائياً إلى تلك الرسائل. ربما سادت بعض الاعتقادات أن الأفراد لا يمكنهم بصورة أو بأخرى تأدية بعض النشاطات التي تعتمد على الذهن من دون «وعي» وشعور تامين. إلا أن تجارب باحثين أمريكيين في علم النفس أثبتت أن بإمكان الأفراد تأدية نشاطات ذهنية كبرى وهم في حالة اللاوعي، وذلك من خلال العقل الباطن فقط: كالتخطيط والتنفيذ، وتقدير المخاطر، والتفكير، وتوقع النتائج، واتخاذ القرارات. وفي هذا إشارة مهمة تؤكد فعلاً أهمية العقل الباطن وترسباته. فالعقل الباطن يسيطر على كافة الوظائف الحيوية في الجسد. وعندما يصاب الفرد باضطراب ذهني من خوف وقلق وحزن وانفعال عاطفي مثلاً، فإن دقات القلب قد تتسارع بشكل مطرد، ويتعرق الجلد ويضطرب التنفس. لكن بإمكان العقل الباطن عمل تهدئة من خلال رسائل الاطمئنان وتكرارها ليستجيب للأوامر. منذ عمر مبكر، يدفن الذهن المحتويات التي تتضمن الأفكار والمشاعرالتي قد لا تتقبلها الذات الواعية في العقل الباطن، وذلك تحت حاجز الكبت. وهذه الدفائن قد تشمل المعتقدات والأحكام وبعض المشاعر مثل الخزي والإحساس بالذنب، التي تؤثر إجمالاً في مزاج وسلوك الفرد. وهذه المحتويات هي مفاتيح السلوك عامة. ربما ما يهمنا الآن من هذا، هو كيفية الاستفادة المثلى من تشكيل وإعادة تهيئة عقلنا الباطن. هو العقل الذي يستجيب إلى التكرار فيرسخ المعلومات والأفكار، ومن ثم تطبيعها في الذات لتأخذ شكل الطباع. وبهذا يتشكل العقل الباطن على هيئة كائن روبوتي خفي ينمو في الظل بعيداً عن إدراكنا اليومي. هذا الكائن الخفي نشكله لا إرادياً من خلال الرسائل والبرمجة، فيخزنها ليعيد إنتاجها ويقوم بالتنفيذ. وهذا الإنتاج يساهم في صنع الشكل النهائي للشخصية وطريقة رصف مستقبلها وقدرها أيضاً، فلا عجب. إنها دعوة جماعية للتفكير والتأمل معاً.