مقالتي اليوم ستكون استكمالاً لمقالة الأسبوع الماضي عن وزارة الإسكان وتحولاتها المقلقة، سأتحدث اليوم عن هذا الارتباك الذي تجد الوزارة الناشئة نفسها فيه إزاء واقع صعب وبلا أفق أو حلول، محاولاً الدخول في حوار مع هواجس الوزارة ورؤاها، التي يمكن التعرف عليها من خلال أحاديث مسؤولي الوزارة للإعلام أو في المنتديات والمؤتمرات. لكن قبل ذلك، دعوني أشير إلى حقيقة غريبة لاحظتها خلال بحثي عن مواد لمقالتي هذا الأسبوع والأسبوع الماضي. تتمثل هذه الحقيقة بطفرة هائلة في النقاش والجدل المجتمعي حول موضوع الإسكان في السنة الأخيرة. كنت كتبت ثلاث مقالات في هذه الجريدة قبل 15 شهراً حول نفس الموضوع. وأذكر حينذاك أن الكتابات حول القضية محدودة ويمكن التعامل معها. أما اليوم فإني أجد نفسي اليوم أغرق وسط كم هائل من الكتابات الثمينة والجيدة حول المشكلة. علام يدل هذا النمو الهائل في الإنتاج المعرفي حول المشكلة؟ أظن أنه أحد أوجه التعبير المجتمعي عن خطورة المشكلة والوعي بمخاطرها المتزايدة. وربما أيضاً أن إنشاء الوزارة ساهم في تسخين الجدل حول المشكلة. فمن جهة، الوزارة بالفعل قامت بدور كبير في تعظيم الوعي عبر الدراسات والاستشارات والمشاركة النشطة في المؤتمرات حول قضية الإسكان، وإن كانت في الآونة الأخيرة بدت تميل نحو لعب دور منظم هذا الوعي والتحكم في كيفيات بنائه. ومن جهة أخرى، إن ما تطرحه الوزارة من حقائق وأرقام ونتائج دراسات أو حتى من مشاريع تحرض على توسيع الجدل موافقة أو معارضة. النتيجة الرئيسة لكل هذا الوعي المتعاظم خلال الخمسة عشر شهراً الماضية يتمحور حول حقيقة مركزية مفادها أن شُح الأراضي هو العائق الرئيس أمام حل مشكلة الإسكان، الجدير بالذكر أن وزارة الإسكان نفسها أحد أكبر منتجي هذه الحقيقة عبر نتائج الدراسات التي تعلن عنها أو عبر تصريحات مسؤوليها. وعلى الرغم من أن هذه القضية شائكة و كبيرة، إلا أن مايثير القلق ليس هي بذاتها، بل ومثلما ذكرت في مقالة الأسبوع الماضي، هو محاولات الوزارة التخلي عن تقديم حلول ناجعة للمشكلة وتقديم حلول قاصرة، ربما بسبب إدراكها أنها لن تستطيع تقديم حلول ناجعة. كيف؟ سأوضح. لنجمع الحقائق التالية: 1) نواجه معضلة سكانية حاولت الدولة حلها من خلال إنشاء وزارة إسكان و تخصيص مبلغ 250 مليار ريال لبناء نصف مليون وحدة سكنية تودع في حساب الوزارة. 2) لم تستطع الوزارة البدء في تنفيذ المشروع الضخم بسبب عدم توفر أراض لإقامة المشاريع عليها. 3) تزايد أعداد من لايستطيعون البدء بالبناء من المستحقين لقروض صندوق التنمية العقارية بسبب عدم القدرة على توفير أرض سكنية للبناء عليها. 4) وزارة الشؤون البلدية تعلن عن تسليم وزارة الإسكان 169 مليون متر مربع في 238 موقعاً تكفي لبناء 200 ألف فيلا أو 600 ألف شقة. 5) على الرغم من تسلم وزارة الإسكان لهذه المساحات الضخمة من الأراضي إلا أن الوزارة لاتزال تعلن أن عامل الأرض لا يزال يشكل التحدي الكبير في وجه مشاريعها. 6) لا وزارة الشؤون البلدية ولا وزارة الإسكان أعلنتا بيانات تفصيلية عن الأراضي المسلمة لوزارة الاسكان من حيث المواقع و المساحات. 7) بيانات مصلحة الإحصاء عن السكان والمساكن لسنة 1431ه تبين أن مشكلة تملك الأسر السعودية للمسكن ليست متساوية بين المناطق، ففيما تفوق نسبة التملك 70% في حائل و نجران و سكاكا و الباحة، فإن النسبة تقل عن 50% في الرياض و تقرب من 40% في جدة و الدمام. 8) أن هناك أراضي بيضاء شاسعة في النطاقات العمرانية للمدن التي يمثل فيها المواطنون من مالكي المساكن أقلية (أي الرياض و جدةوالدمام). بعد جمع الحقائق أعلاه، يتبيَّن لنا أن أزمة الإسكان تتركز حقيقة في المدن الرئيسة الثلاث. وأن المواقع التي سلمتها وزارة الشؤون البلدية لوزارة الإسكان إما تقع في مدن ومناطق لا تعاني أزمة إسكان أصلاً، أو في أراض تابعة للمدن الثلاث لكن في مناطق بعيدة خارج النطاق العمراني. لنتذكر في هذا السياق أن وزارة الإسكان في طورها الأول، أي في السبعينيات الميلادية، بنت مشروعاً إسكانياً في جنوب مدينة الرياض، على طريق الخرج، قبل حوالي أربعين عاماً و لم يشهد هذا الحي اقبالا عند توزيعه قبل عشرين عاما ولا يشهد الآن، حيث يمكن الآن شراء شقة فيه بأقل من 150 ألف ريال وسط هذا الغلاء الفاحش في أسعار العقار. واضح أن مشاريع الوزارة، و قضية الإسكان برمتها، تواجه معضلة حلها يكمن في أمر واحد هو الأراضي البيضاء وسط المدن الرئيسة. لذا، تقلبت الوزارة بين حلّين: إما فرض رسوم على الأراضي البيضاء أو شرائها من أصحابها. و بما أن كثيراً من مُلَّاك هذه الأراضي من ذوي النفوذ الذين يمكن لهم إعاقة أي قانون يُقصد به تدفيعهم ثمن احتفاظهم بهذه الأراضي بيضاء وسط أزمة إسكانية، فإن »العقلاء» ربما رجحوا شراء الأراضي البيضاء بدل إجبار ملاكها على دفع رسوم. عاتبني صديق لي عن مقال الأسبوع الماضي، والذي انتقدت فيه توجه الوزارة لشراء الأراضي البيضاء. منطق الصديق بسيط: »دع الوزارة تدفع ال250 مليار لإصحاب هذه الأراضي وتطور هذه المخططات وتوزعها على مستفيدي صندوق التنمية العقارية ليبنوها بأنفسهم (على نمط حي الجزيرة بالرياض) بدلاً من أن تنفق هذه ال250 مليار على مشاريع إسكانية في براري وقفار خالية على نمط إسكان الخرج فتذهب هباءً»!