سيعمد هذا المقال المتسلسل إلى (الاستغراق في التفسير) كحالة بديلة عن (النياحة على الحي) التي تمارس في الإعلام بشتى صوره وفي المجالس حين التعرض للمشهد الصحي المحلي. من المهم في البدء الإشارة إلى أن المشهد الصحي لا يمكن أن ينعزل عن بقية مشاهد المجتمع كالمشهد التنموي والسياسي المحلي والاجتماعي والإعلامي والتعليمي ووعي المجتمع والفساد والأخطاء الطبية وموضوع المرأة وغيرها من الصور المتداخلة والتي سيتعرض لها المقال تباعا في محاولة للفهم لا تهدف لمحاكمة أحد ولا تمارس الإسقاط على جهة. هذه محاولة للفهم الذي يقود للتفاعل الصحيح مع الوضع والراهن وترقيته بدلا من موقف المشاهد أو الضحية! لا يمكن استعراض التاريخ بتفاصيله هنا، لكن يمكن القول أن هناك سمات محددة في بدايات التكوين وشهادة يجود بها التاريخ القريب والقصير في آن، هذه السمات أثرت ومازالت تؤثر في مجمل الوعي والأداء المتعلق بالخدمة الصحية في البلد، ومازلنا نستصحب هذه المحددات أو آثارها العميقة على الواقع أو الفكر كمشجب فقط لا كحافز – مع الاعتذار ممن يتحسس من هذه الكلمة – للتغيير. أولى هذه السمات البداية المجزأة للخدمة في البلد التي أعلنت عن عدة جهات مقدمة للخدمة الصحية بطريقة فيها من التفاضل الكثير ومن التكامل القليل أورثت حالة من (النخبوية) في تقديم الخدمة، ورغم وجود التراتبية في أدبيات الممارسة المهنية للطب إلا أنها تراتبية مهنية ترتبط بطبيعة الحالة وليست تراتبية تحتكم إلى الانتماء الوظيفي أو المناطقي! هذا الأمر الواقع جعل وزير الصحة السابق الدكتور غازي القصيبي رحمه الله يتمنى أو يفكر بإحالة مستشفيات وزارة الصحة إلى مظلة وزارة الدفاع والتعليم العالي والحرس الوطني وغيرها من المظلات المتفوقة ويبقي فقط على مراكز الرعاية الأولية – كما ذكر ذلك في كتابه حياة في الإدارة – هذه الطريقة في التفكير انتقلت من المسؤول إلى المواطن المستفيد من الخدمة وظل الظن بنخبوية الخدمة وتفاضلها يقينا عن الكثيرين حتى وقتنا هذا، غذى هذا الأمر غياب التوازن في غفلة من خطط التنمية اعتمادا على وجود تلك المؤسسات المتفوقة التي ستدير الأزمة إن حدثت، حتى أصبح كل مريض أزمة وكل مرض كارثة. هذا الأمر جزء من تفسير ظاهرة طلب العلاج بالأوامر في بلد يقول نظامه الصحي بتكفل الدولة بعلاجه في كل مكان داخل وخارج البلاد! هذه الإشكالية معقدة قليلا ولعل التطرق إلى ثنائية الخدمة والنظام في الموضوع القادم يجلي شيئا منها. ومن السمات في التكوين أيضا تدخل القبيلة والجاه في التخطيط للخدمة، وإن كان هذا التدخل يقوم على فكرة صحيحة هي (توطين الخدمة الصحية) إلا أنه كان في واقع الحال بعيدا عن التوطين الصحيح ويحمل في طياته أجندة مضافة لها أبعادها الخاصة، واستمرت سياسة الإرضاء عبر نصب مشروعات هنا وهناك حتى أصبحت الآن عبئا كبيرا على الخدمة الصحيحة والمتكاملة، وساهم هذا الوعي الخاطئ في إحداث شلل كبير بفكر النقل الإسعافي في بلد مترامي الأطراف الذي مازال حتى وقتنا هذا ضعيف الاحترافية ومرتبطا بذات الأداء البيروقراطي الأول. ومن تلك المحددات ذات العبء في البدايات، الخلل الكبير في توازن وعدد المخرجات البشرية الوطنية فكيف يمكن لنا تفسير ذلك التقتير الشديد في قبول وتخريج الأطباء السعوديين يقابله في نفس الفترة الزمنية ذلك الكرم في تخريج الفئات الفنية الوطنية خاصة التمريض، كلا طرفي الأمر كان ضارا فقلة الأطباء السعوديين عامل معاصر مهم حين ننظر للبلد بجغرافيتها الكاملة وهذا الفائض الكبير من طواقم التمريض غير المؤهلة جيدا والذي انسحب من الميدان مبكرا تاركا المكان لغير السعوديين وتوارى خلف المكاتب الإدارية فكانت ضربة مزدوجة أضرت بموقعين بفعل واحد. واستمر هذا الأداء السلبي مع الفئات الفنية واستلمهم رجال الأعمال عبر المعاهد الخاصة التي زادت الطينة بللا وأحدثت معادلة مفهومة وغير مفهومة في آن واحد لماذا هذا العدد من العاطلين الفنيين في بلد لا تزال مؤسساته الصحية تحتاج الكثير من العنصر البشري المؤهل؟؟. لقد انتقلت الخدمة الصحية المعاصرة من مفهوم العلاج إلى مفهوم الرعاية والتي تقتضي استدامة الخدمة وتكاملها وإن الارتهان للطفرات الاقتصادية التي يتبعها قفزات في المشروعات والخدمات ثم تنكمش لاحقا كان إشكالا مزعجا حال التعامل مع الرعاية الطبية وقد تأخر كثيرا مفهوم اقتصاديات الصحة وإن كان المخطط المعاصر قد تنبه لذلك وتوجد بدايات مشجعة على كل حال.. مرة أخرى فإن التعرض للبدايات كان بسبب أثرها على الوعي لدى مقدم الخدمة والمستفيد منها ورغم المحاولات الجادة حاليا للانعتاق من كل هذا إلا أن الوقت لايزال باكرا والتحديات ستظل كبيرة.. وللموضوع صلة.