يكاد الدم يتجمّد في العروق، ويستحيل لون جلدك إلى أزرق. تشعر بأن أنفك وأُذناك انفصلوا عن رأسك، كذلك الأمر في ما خص يديك، تفقد الشعور بأطرافك، وتلجأ إلى أنفاسك المتصاعدة كبخار في الهواء، فترسم منها صورة خيالية توحي بأنها دخان يتصاعد لنار موقدة. سماء البلدة تملؤها الغيوم، لكن لا مطر يكسر بردها القاتل، أنت هنا في وادي خالد، المنطقة اللبنانية الحدودية الأشهر منذ بدء الثورة السورية. البرد فيها لا يشبه غيره، قارس وقاس حتى على أهله، فكيف بالغريب الزائر، للشتاء هنا قصة مختلفة، تحكيها مواقد الحطب داخل المنازل. لكن شتاء هذا العام قلبته أحداث سوريا رأساً على عقب. فصقيع الليالي أذهبته نار النفوس المشتعلة. ربما يكون هذا هو سر الصمود. تكتشفه وسط أزقة قرى الوادي الوادعة. تعلم أنه هنا يصاغ تاريخ شعب انتفض رفضاً للظلم. الهدوء في قرى المنطقة، لا يعكس الغليان الذي تعيشه عشرات المنازل فيها. إذ يكاد لا يخلو منزلٌ هنا من لاجئ سوري أو عسكري منشق أو عائلة هربت من جحيم المعارك على الضفة الأخرى. التداخل الحدودي بين الدولتين لبنان وسوريا، يجعل من المستحيل الفصل بين قاطنيها الجار قبل الدار، مقولة يرددها أبناء الجانب اللبناني الذين حكمت الجغرافيا عليهم أن يكونوا جيراناً لإخوانهم السوريين. في وادي خالد وحدها تصادف منزلاً واحداً في دولتين منزلٌ يقع نصفه في لبنان ونصفه الآخر في سوريا باب المنزل من الجهة اللبنانية، أما شرفته ونافذته فتقعان في الجهة السورية. غريبٌ أمر هذه المنطقة. هنا شارعٌ يوصلك إلى منزلٍ لبناني. وعلى مقربة أمتار منه تجد شارعا آخر سوريا. ترمي ببصرك إلى التلال المحيطة فتتراءى لك عدد من المواقع العسكرية. أحدها للجيش اللبناني فيما المواقع الباقية تشغلها القوات السورية التابعة لنظام بشار الأسد. مجموعات من المقاتلين الليل هنا ستار. خفافيشه لا تخرج لشدة برده، لكن المقاتلين يرون فيه حريتهم. يرون فيه اللباس الذي يقيهم عيون مخبري الاستخبارات. يغيّرون ملابسهم. يستبدلونها بأخرى عسكرية. يحمل بعضهم سلاحاً فيما يذهب البعض الآخر خفيفاً. الدراجات النارية هنا دابة الأراضي الوعرة. عونهم الأوحد على اختصار الوقت. يركب الدراجة رجلان وأحياناً ثلاثة رجال. يذهب بعضهم راجلاً. ينقسمون إلى مجموعات لا يتعدى عدد الواحدة عشرة رجال. يتجهون إلى قبلة واحدة. يقصدون سوريا، ومن أجلها، يعبرون الحدود تحت جنح الظلام. الأرض هنا تعرفهم. لا شيء يثنيهم عن مرادهم. حقول الألغام التي زرعها الجيش السوري شقّوها بأقدامهم بعدما عطّلوا عدد كبير منها. فهم عسكريون أيضاً، لكنهم انشقوا وانضموّا إلى جيش آخر. جيش أسموه «جيش الأحرار». بينهم مهندسون وخبراء متفجرات. أزالوا أكثر من مئة لغم لحد الآن. نظّفوا طرق دخولهم وخروجهم. أزالوا القنابل المزروعة فيها وعطّلوا صاعقها الموضوع لتشظية أشلائهم. مهّدوها وأمنوها. فعبر هذه الثغرات سيدخلون الجرحى ومزيداً من اللاجئين والعسكريين المنشقين الذين لا يستطيعون عبور الحدود الشرعية. فأسماؤهم مدرجة ضمن لوائح تنتظر أيدي السجان الغليظة قدوم أصحابها. التهم الموجهة ضدهم متنوعة. أبرزها المشاركة في تظاهرات غير مشروعة ضد النظام. وهناك العسكريون المتهمون ب «الخيانة العظمى» لتركهم صفوف جيشهم وهربهم من الخدمة. تهمة يرى فيها أصحابها وساماً يعلقونه على صدورهم يوم إسقاط النظام. 80 % من محافظة حمص بأيدي الثوار المشاركة في رحلة مع أفراد الجيش السوري الحر لا ينالها كل من يطلبها. فالجواب الاعتيادي يكاد يكون عرفاً هنا بالنسبة إلى كثير من الصحافيين الذي ملّوا من سماعه، فالرد واحد: «لا يمكننا أن نضمن أرواحنا فكيف نضمن سلامتكم». يتحدث أحد المسؤولين ل «الشرق» عن خطورة هذه المغامرة. يشرح أن «الانتقال من منزل إلى منزل في بلدة القصير (السورية الحدودية مع لبنان) مخاطرة على أبناء القصير أنفسهم». إذ إن الرصاص الغزير المنطلق مجهول المصدر دائماً. ويضيف، «لا يعرف أحد متى تدنو ساعته». يقولها ويكمل حديثه عن الفظائع التي تجري هناك. تسأله عن نسبة سيطرة الجيش الحر على المنطقة. فيجيبك بأن قرابة 80 % من محافظة حمص باتت بأيدي الثوار. يستفيض بالحديث عن انتصارات الثوار. تسأله عن العمليات وأعداد القتلى. فيخبرك بأن «الشهداء يسقطون بالعشرات». تعود إلى مسألة الدخول إلى منطقة القصير. تسأله مجدداً متسلّحاً بسلاح الإلحاح الذي لا سبيل لك سواه. تقنعه بأن انتقالك سيكون على مسؤوليتك الخاصة. يرفض بداية فهو لا يريد أن يحمل ذمته ما لا طاقة له بها، لكنه لا يلبث أن يقتنع. الدخول إلى سوريا تبدأ التحضيرات للجولة المنتظرة. تمرّ الساعات طويلة قبل أن يحدد موعد الانتقال. يحدد اليوم وتترك الساعة لتقدير المسؤول عنك. يضعونك في منزل قريب من الحدود. تمكث فيه ساعات عدة، قبل أن يصل سائق درّاجة. يطلب إليك الصعود خلفه ويوصلك إلى الحدود. تترجّل وهناك يستلمك رجل مقنّع. يطلب إليك إغلاق هاتفك الخلوي، ويردفها بعبارة اتبعني. تمشيا سوياً قرابة عشرة دقائق. لا ترى خلالها أحداً. الطريق فارغة باستثناء مشاهدة راعي أغنام يجلس وسط قطيعه. يوصلك الرجل المقنّع إلى منزل آخر. يستقبلك عدد من الشبان السوريين في داخله. تعلم أنّك بتّ في سوريا. تنتظر هناك قرابة ساعة. ترتشف الشاي، الضيافة اليومية لأهالي الوادي وسوريا. تسألهم عن أحوال سوريا فتنقسم آراؤهم بين متفائل ومتشائم. تسمع ثلاث طرقات على باب المنزل. «إنه أبو علي» يقول أحد الشبان الجالسين وينهض ليفتح الباب. يأتي صوت القادم سائلاً : «وين الصحفي». تخرج لملاقاته فيطلب منك مرافقته. دراجة نارية من جديد. تصعد خلفه لتنتقل إلى منزل آخر وهناك تصبح في منطقة القصير. يتوزّع على الطريق الممتدة عدد من الرجال يسمونهم بالكشّافة. بعضهم مزارعون والآخرون رعاة أغنام. يحمل كل واحد من هؤلاء هاتفاً خلوياً. يتولى من خلاله توجيه الإنذارات أو إعطاء الإشارة بأن الطريق آمن. يخبرك أبو علي أن هذه الإجراءات ضرورية باعتبار أن هناك قرية مشرفة على الطريق سكانها ينتمون إلى الطائفة العلوية الداعمة للنظام. لكنه يردف قائلاً: «هناك منازل متعاونة مع الثورة وسط القرية العلوية». بعد سقوط النظام سنحاسب الطرقات في المنطقة محفورة. لا تحتاج إلى كثير من الذكاء لتعلم أنك وسط ساحة معركة. عناصر الجيش الحر يسيطرون على المنطقة. بعضهم حفر الخنادق ليتحصن فيها. هناك طرقات زرعوها بالألغام. فالقصير ليست واقعة تحت سيطرتهم بالمطلق. كما أنهم ليسوا بمنأى عن إغارات قوات الأمن والشبيحة. كما أن مدينة القصير لا تزال تحت قبضة النظام فيما قرى القصير المحيطة هي التي تسيطر عليها قوات الجيش الحر. لا توجد ثكنات للجيش الحر هنا. تسأل عن السبب، فيرد أحدهم بجواب غير مباشر بأن «ثكنات الجيش الحر موجودة في جبل الزاوية». معظم الموجودين هنا يحملون السلاح. يتوزعون إلى مجموعات. حديثهم الأوحد أخبار سوريا. موقف دول العالم من الأحوال فيها. يأتي بعدها أخبار عمليات الجيش الحر وفظائع قوى الأمن والشبيحة. تقترب منهم معرّفاً عن نفسك بأنك صحافي. فيتحلّقون حولك. يسألونك عن الجهة التي تعمل لها قبل أن يبدؤوا بسرد قصصهم. يخبرونك عن جرائم تحصل يومياً. يروون لك حوادث خطف فتيات من الطائفة السنية واغتصابهن جماعياً قبل قتلهم. تدمع عيون البعض فيطلق أحدهم عبارات وعيد وتهديد. تسألهم عن طائفية الحرب. يجيبون بأنها ليست كذلك. لكن قول أحدهم يؤكدها. «عند سقوط النظام سنحاسب كل من لطخت يديه بالدماء». يسكت قليلاً قبل أن يضيف، «وجميع العلويين لطخت أيديهم بدمائنا». أسرى من جيش النظام سرد الفظائع لا ينتهي. يحدثونك عن انتهاكات النظام. يخبرونك عن خذلان المجتمع الدولي لهم وتواطؤ الجامعة العربية. تسألهم عن إمكانية صمود الجيش الحر في وجه ترسانة جيش النظام. تتجهم وجوه البعض، لكن معظمها يُفرج عن ابتسامة. يطلبون الشاي مجدداً ليبدؤوا بعرض صور عمليات قام بها أفراد من الجيش الحر. يعرضون لك صور أسرى من جيش النظام. كما يعرضون صور قتلى يزعمون أنهم إيرانيين. يستدلون على ذلك من خلال لحاهم. إذ كيف يمكن أن يطلق عسكري العنان للحيته. ليس هذا فحسب. يخبرونك أنهم لم يجدوا هويات بحوزة القتلى. ويرون أن ذلك يؤكد روايتهم لجهة أنهم ليسوا سوريين. الأحاديث تتكرر والروايات المنقولة لا تنتهي. حالها كحال المقارنة مع المعسكر المقابل. يخبرونك كيف يعاملون الجثث وفقاً لشريعة الإسلام. يعرض أحدهم مقطعاً مصوّراً يظهر فيه أحد مقاتلي الجيش الحر وهو يحاول ركل جثة قتيل، لكن أحد زملائه يمنعه قائلاً : «لا ترفس جثة ميت، هذا ليس من شيم ديننا». فيرد الأول غاضباً بأنهم «كانوا قادمين لذبحنا». المشاعر تختلط هنا. ينعكس النقاش المصور ليبدأ حيّاً على ألسنة الحاضرين. ينقسم الجنود بين مؤيد ومعارض ويغرقون في نقاش يقطعه خبر اتصال من العقيد رياض الأسعد بالقائد المسؤول عنهم. تستأذن فيحيون شجاعتك ويوصوك بالدعاء للثورة. تتركهم مودعاً برفقة الدليل الذي بقي يرافقك كظلك طوال وجودك هناك. تعود أدراجك كما ذهبت. منزل فدراجة فمنزل فدراجة فمشي لعشر دقائق ثم دراجة مجدداً فمنزل يؤويك. هكذا تستقبلك مجموعة مسلّحة في داخله. لا تتعرّف منهم سوى على اثنين. يسألونك عن أحوال سوريا كأنهم لا يعرفونها. في سياق الحديث تعلم أنهم قدموا لبنان منذ يومين لا أكثر. برفقتهم عسكري منشق فقد والده وإخوته الثلاثة. أحضروه إلى لبنان بعدما تدخّلت والدته لدى أحد قادة الجيش الحر راجية أن يحمي حياة ابنها الذي لم يبق لها غيره. يؤكد أفراد المجموعة أنهم سيقدمون حياتهم دفاعاً عنه، لكن للشاب المنشق موقف آخر «لن ترتاح روحي قبل الانتقام من القتلة». أسلحة ووسائل اتصال جندي من الحيش السوري الحر (الشرق)