عندما نتحدث عن الأدب فإننا نحاكي الناس، العقل، الروح، بطريقة إبداعية لا يجد معها التاريخ بداً إلا أن يخلدها على صفحاته لتنتقل بعدها إلى الأجيال اللاحقة جيلا بعد آخر، حاملة معها تلك الترسبات الثقافية العاكسة لخبايا وحضارات الشعوب من إنجازات، أو هموم، أو معاناة، أو نضال تلك المجتمعات للبحث الحقوق، عن الحرية، عن العدالة بين ثنايا قصيدة أو بين سطور رواية أو قصة قصيرة أو في نهاية أحد الفصول من مسرحية أو حتى في لوحة جسدت بين ألوانها واقع حياة. لم يقتصر دور الأدب في الماضي على الثقافة والتسلية والخيال بل تعدى ذلك إلى أن طرق أبواب الواقعية التي يعيش فيها المجتمع، بل كان أحد الركائز الأساسية في انطلاق الشرارة الأولى في ثورات الشعوب في العالم ضد سياسات القمع والاستبداد و الأنظمة الفاسدة، فلو أدرنا عجلة التاريخ إلى الوراء، فلا بد أن نذكر إسهامات الأدب والأدباء في الحراك الشعبي لقيام ما يسمى بالثورات، وعلى سبيل المثال إسهامات فولتير الفرنسي أشهر رجالات الأدب في عصره. وكان يستخدم مهاراته الأدبية لمحاربة الاستبداد والتعصب الأعمى، والترويج للعقلانية. وكانت أكثر أعماله شهرة هي روايته الساخرة بعنوان «كانديد» والتي كتبت عام 1759، أما جان جاك روسو فقد اقترح تغييرات في المجتمع الفرنسي في روايته (إلوازا الجديدة) عام 1761، وإسقاطات بيير بو مارشيه في بعض هزلياته الساخرة مثل: (حلاق إشبيليا) والتي كتبت عام 1775؛ وأيضا (زواج فيجارُو) والمكتوبة في عام 1784، وكلتا الروايتين كانتا تعالجان طبيعة الامتيازات الأرستقراطية المبالغة و اللامعقولة لتلك الطبقات، وأسهمت تلك الروايتان وما قبلهما من تدوينات الأدباء في الأفكار التي أدَّت إلى تكوين وعي اجتماعي بضرورة الإصلاح، ومن ثم في اندلاع الثورة الفرنسية التاريخية بين عامي 1789 و1799. وفي عام 1851 – 1852 أبدعت الكاتبة الأمريكية هارييت بيتشر ستو تلك المرأة صغيرة القوام، هزيلة البنية في تغيير مجرى التاريخ، عندما نشرت لها الرواية العالمية (كوخ العم توم) والتي خلدها الأدب العالمي لمعالجتها قضية الرق بأسلوب روائي صادق، لامس قلوب الناس قبل عقولهم، وهزت بتلك الرواية مشاعر العامة وأسالت مدامعهم في مجتمع كان يعامل العبيد كالحيوانات ويتاجر بأولئك الفئة ويضعهم في قعر المجتمع ويرفض حتى مجرد التفكير في إعتاق رقابهم وانتشرت تلك الرواية والتي كانت تدافع عن الإنسان ضد الظلم وانعدام المساواة بين البشر كالنار في الهشيم في أنحاء متفرقة في أمريكا وأوروبا وساهمت بشكل مباشر في إشعال الحرب الأهلية الأمريكية عام 1861، والتي راح ضحيتها ما يربو على 600 ألف قتيل ويعود الفضل بعد الله إلى هذه الرواية في تحرير العبيد وإلغاء الرق في أميركا. ويقال أن رواية (كوخ العم توم) مُنعت في روسيا في عهد نيقولا الأول بسبب ما نُشر فيها عن أفكار المساواة بين البشر وذلك حتى لا يجد الأقنان (العاملون بالحقول تحت نظام العبودية الإقطاعية) تشابهًا بين حياتهم وأحداث الرواية، الأمر الذي قد يدفعهم للتمرد والثورة على أسيادهم. عندما دعا الرئيس الأمريكي السابق ابراهام لينكولن مؤلفة الرواية السيدة هارييت ستو إلى زيارته في البيت الأبيض بعد انتهاء الحرب، وعندما رآها وكانت نحيفة جدا وضئيلة الجسم، نطق باستغراب عبارته الشهيرة، حيث قال: «إذن فأنت هي المرأة الصغيرة التي أشعلت حربا كبيرة في البلاد»، بل أضيف على ذلك، أنه وبعد قرون من نشر تلك الرواية شاهد العالم أجمع انتخاب أول رئيس أسود في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 2008، والذي كان مجرد التفكير في اعتلاء رجل (أسود) قمة الهرم في البيت (الأبيض) يعد ضرباً من الجنون قبل قرن من الزمان. لقد رأينا كيف كان للأدب تلك الصولات التاريخية الكبرى في إشعال فتيل الثورات العالمية وتغيير مجرى التاريخ، ولكن بعد ما شهد العالم اجمع على ما سمي بالربيع العربي في العام الحادي عشر بعد الألفية الثانية والذي أدى إلى تغيرات جذرية في التاريخ العربي، هل نستطيع الجزم بخفوت صوت الأدب والأدباء في المساهمة في أحداث الربيع العربي، أستطيع الجزم أن الفضل في التغيير وإيقاد لهيب الثورات العربية لم يكن ليحدث لولا وجود ذلك الكم الهائل من التقنيات التكنولوجية الحديثة كأجهزة الجوال وبرامج التواصل الاجتماعي كالفيس بوك والتويتر واليوتيوب وغيرها، والتي سهلت بما لا يدع مجالا للتأويل انتشار الأحداث في وقتها وتبادل المعلومات بين الثوار واستنهاض همم الشباب والذين كان لهم الفضل بعد الله في إحداث تلك التغيرات التاريخية في مجتمعاتهم. لطالما كان الأدب وبشكل خاص في المجتمعات العربية ينتهج سياسة (التلميح) لا سياسة (التصريح) والتي قد لا تجدي نفعا مع بعض الأنظمة ذات السياسات القمعية الظالمة، في الربيع العربي استبدلت الشعوب العربية الثائرة التلميح الأدبي بالتصريح التقني، وكأن لسان حالهم يقول: (جئناكم بالأدب ولكن لم يُجدِ معكم نفعا).