تُشكل الحضارة الإسلامية القديمة مصدر فخر واعتزاز لنا بوصفنا مسلمين، وشاهداً على تطورنا وتقدمنا في ذلك الوقت، فدمشق وبغداد والقاهرة وباقي مدن المغرب العربي والأندلس سجلت شواهد كثيرة على تقدم المسلمين في مجالات فكرية وحضارية شتى. يجمع المؤرخون على أن الحديث عن التجربة الحضارية الإسلامية لا يمكن أن يتم بمعزل عن تاريخ الجزيرة العربية، التي تمثل المنطلق الفكري والإنساني لهذه التجربة؛ لكونها مهبط الرسالة وحاضنتها، ومنها تأسس الإطار الحضاري للأمة العربية والإسلامية، وهذا قطعاً يدفعنا إلى الربط بين تاريخنا القديم والتاريخ الوطني للدولة السعودية التي ورثت المسؤولية التاريخية والدينية والثقافية للمشروع الحضاري العربي لعدة أسباب أهمها أنها قامت على البقعة الجغرافية نفسها التي شكلت شرعية الحالة الحضارية لأمتنا، والسبب الآخر وهو محل فخرنا واعتزازنا أننا الدولة الإسلامية الوحيدة التي تحتكم إلى الشريعة الإسلامية، وبذلك اجتمعت للمملكة العربية السعودية شرعية إسلامية ووطنية تجعلها نقطة ارتكاز لمشروع الأمة الحضاري. لقد سبق أن كتبت مقالاً عن أهمية التاريخ في بلادنا، وتخوفت من أن تزيد الفجوة بيننا وبين تاريخنا الإسلامي عامة والوطني خاصة؛ بسبب عدم الاهتمام به كمادة تُعنى بالحضارة وبناء الإنسان فكرياً وثقافياً؛ لأن الاهتمام بالجوانب التاريخية ورؤيتها رؤية صحيحة تُعطي الإنسان مزيداً من التأمل والعظة والتفكر، وتزيده قوة وصلابة في تمسكه بدينه ووطنه؛ حيث لا يمكننا غرس الوطنية في نفوس أولادنا دون التطرق لتاريخنا الإسلامي المشرّف أو تاريخنا الحديث المليء بالمواقف الوطنية الصادقة التي يجب غرسها في نفوس أجيالنا. وقد اطلعت على المقال المنشور في جريدة «الشرق» الخميس الماضي للدكتور ناصر الجهيمي نائب الأمين العام لدارة الملك عبدالعزيز، الذي تحدث فيه عن تجربة كرسي الأمير سلمان بن عبدالعزيز للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية في جامعة الملك سعود وتنظيمه للملتقى العلمي الأول للمشرفين على الكراسي والمراكز العلمية السعودية في خارج المملكة وداخلها؛ حيث يسعى هذا الكرسي إلى إتاحة الفرصة لجميع المختصين في التاريخ والحضارة من داخل المملكة وخارجها في المشاركة بالرؤى والأفكار لتطوير أنشطة الكرسي والرفع من مستوى جودته. وفكرة الكرسي جاءت في الوقت المناسب جداً، وذلك عقب تضاؤل أقسام التاريخ في جامعاتنا السعودية، وتقلص عدد طلاب التاريخ في الآونة الأخيرة، وعزوف كثيرين عن الالتحاق بقسم التاريخ ما حدا ببعض الجامعات أن تغلق قسم التاريخ نهائياً، ووفق هذا المنطلق فإن هذا الكرسي سيكون الأمل الأخير للمحافظة على جزء من تاريخنا الوطني والإسلامي من خلال الاهتمام بالندوات العلمية المتخصصة، وكذلك تشجيع الباحثين والباحثات في مجال التاريخ في عمل البحوث والدراسات التي تهتم بالشأن التاريخي، خصوصاً الوطني. والناظر في منهجية الدول المتقدمة والمتحضرة التي سبقتنا في هذه الحضارة بعقود يشاهد حرصهم الكبير على المحافظة على تاريخهم، نلاحظه سواء كان ذلك مكتوباً أو موجوداً على أرض الواقع مثلما في المتاحف الرسمية بتخصيص قاعات ومناسبات لتخليد أسماء الرموز بين الحين والآخر، فيعدون الماضي جزءاً مهماً من حاضرهم، وهو عنوان تقدمهم وازدهارهم، ويتغنون بماضيهم ويمجدونه بصفة مستمرة، أما نحن فأصبحت كلمة «التاريخ» تعني «الماضي» فقط، ويرجع كثيرون أن السبب الذي أخر العرب هو تغنيهم بماضيهم وهذا غير صحيح؛ لأننا نحن تركنا التمسك بالقيم النبيلة والصادقة التي هي تقودنا إلى الأمام، فتمسك بها غيرنا وطبقها، وأصبحت جزءاً من حياته ومؤشراً كبيراً على تقدمه. والمجتمع بحاجة إلى معرفةٍ نوعيةٍ للتاريخ السعودي بشكل أعمق من الموجود؛ وذلك من خلال دراسات الإنثروبولوجيا «علم الإنسان» والدراسات الثقافية المرتبطة به، أو الجيولوجيا وما تحتويه المملكة من تشكيلات جيولوجية فريدة؛ لأنها تعطي قيمة عالية وبُعداً أكبر مما نراه الآن من مناهج تعليمية رديئة خرَّجت أجيالاً لا يعرفون أي شيء يخص بلدهم عدا معلومات جغرافية بسيطة. وأي دولة متحضرة في العالم تُركز في التربية والتعليم على هذه العلوم التاريخية المتعمقة التي تدرس الإنسان والمجتمع والظواهر الاجتماعية والتاريخية؛ لأنها بهذه الطريقة تربط بين الإنسان وتاريخه من خلال معرفتهم بتراث بلده واعتزازه بما تحتويه بلاده من هذا التنوع والإرث التاريخي، ولكن ما نراه الآن أن المجتمع يعرف عن وضع البلدان المجاورة أكثر من معرفته بما يحتويه بلده من ثقافة وجغرافيا وجيولوجيا وآثار عربية وتاريخية أصيلة؛ وذلك بسبب محافظة تلك الدول على آثارهم من خلال المتاحف والمعارض وتطويرها وتحديثها في كل فترة، فتكون فعلاً رصيداً تاريخياً للدول وشعوبها. وختاماً إن آمالاً كبيرة معقودة على كرسي الأمير سلمان بن عبدالعزيز في أن يكون شاملاً وفاعلاً في كل ما يتعلق بتاريخ الجزيرة العربية، والعمل في إطار متعاون مع الجهات المعنية في وزارة التربية والتعليم وهيئة السياحة والآثار وغيرها؛ ليكون تاريخ المملكة مثبتاً وحاضراً بفخر وقوة، حيث إن الإرث العربي القديم موجود، وقامت عليه هذه الدولة بجهد رجالها وبتعاون مواطنيها، فمن الإجحاف أن يُغفل هذا التاريخ المليء بالتفاصيل والعمق، ولا يتعرف إليه من أفراد المجتمع.