من خلال استعراض آليات الكبت والاستجابات النفسية لها طيلة مراحل تكون الشخصية، ومن خلال استعراض الاحتياجات النفسية وفق هرم إبراهام ماسلو يمكن فهم آلية تحول الفرد إلى شخصية إرهابية تنزع إلى العدوان. فقد رتَّب ماسلو الاحتياجات الأساسية لنمو الشخصية السوية ضمن تراتبية معقدة من خلال هرم الاحتياجات: «وجد ماسلو أن ثمة خمسة أنواع من الحاجات الأساسية، هي: 1-الحاجات الفيزيولوجية. كالحاجة إلى الطعام والشراب والنوم والرغبة الجنسية. 2-الحاجة إلى الأمن. وتتمثل في الثقة والطمأنينة والدفاع. 3-الحاجة إلى التعامل مع الآخرين وإقامة روابط معهم. 4-الحاجة إلى الاعتراف والقيمة والاحترام، بما في ذلك احترام الذات. 5-الحاجة إلى تحقيق الذات» (علم النفس في القرن العشرين، ص434)، إن أبرز ما يمكن مناقشته هنا يتعلق بالهوية الذاتية، ولعل مما يؤكد عليه علم النفس بخصوص هذه الهوية هو قابليتها للتحول، مع قابليتها في كل مرحلة لاحقة للاستفادة من تجربتها المعاشة سابقاً، ولا يكون هذا واقعاً ملموساً في ضوء نقص تصور الفرد حول ماهية هويته الذاتية، وبالتالي عدم إدراكه لتحولاتها في كل مرحلة من مراحل حياته: «تبرز أزمات الهوية في مراحل حرجة من الحياة، عندما لا تبدو التجربة المعيشة المسبقة قابلة للاستعمال وعندما لا يتم التحول الضروري للشكل الجديد للهوية»، لهذا فإن أكبر مأزق يواجه هذه الشخصية غير السوية هو مأزق «ثبات الإدراك» كما يسميه علم النفس، ويعرفه على أنه: «ثبات بالرغم من تغير المثيرات» (أطلس علم النفس، ص18)، فعلى امتداد المراحل الزمنية والعمرية وتغيرها لن نجد إلا تصوراً دونياً وشعوراً بالنقص من الفرد تجاه هويته، ما يعني أن الحياة حين يعيشها الفرد بين عالمين متناقضين فإنها تؤدي لتكوين كثير من النقائص، ولاسيما حين تكون الحياة المعلنة والظاهرة، أي المحيط الاجتماعي، متزمتة تنزع إلى التحريم ولو من باب سد الذرائع، بينما يعيش الفرد حريته الخاصة وهو يشعر بوطأة الجرم الاجتماعي الذي يقترفه. إن سلسلة الكبت وفقدان الاحتياجات النفسية الأساسية هي ما يغذي النزعة العدوانية لدى الفرد، مع ما يفترضه فرويد من أن العدوان غريزة فطرية: «هي عند البشر نزعة متأصلة تعيل ذاتها وتمثل العائق الأعظم أمام الحضارة» (الأنماط الثقافية للعنف، ص128)، وبغض النظر عن كونها غريزة أصيلة أو مكتسبة إلا أن النشأة النفسية غير السوية لا بد أن تجعل منها سلوكاً سادياً يحقق الإنسان ذاته من خلاله: «الغريزة السادية هي غريزة تدمير موجهة ضد العالم الخارجي وضد الكائنات الحية الأخرى» (الأنماط الثقافية للعنف، ص124)، وفي سيرة عديد ممن ينزعون للعنف أو يميلون للعدوان في سبيل حل ما يعترضهم من أزمات سنجد توصيفاً دقيقاً للرغبة في تحقيق الذات من خلال العدوان، فالحياة الدنيا بوصفها مكاناً بائساً لفرد لم يحقق ذاته تقابلها الحياة الآخرة التي تمثل التحقيق الكامل والأنموذجي للذات، وهذا ما يجعل كثيراً من الخطابات الدينية المتشددة تجعل من الآخرة فقط هي المكان الأنموذجي الوحيد للتحقيق الكامل للذات. إنها أزمة خطاب يرى في زوال الحياة وهشاشتها أسلوب إقناع بعدم جدواها أو بوجوب نبذها بالكامل، وهو الخطاب الذي يسهم في جعل أي طاقة توجه نحو الإلغاء والتدمير والميل المستمر للعنف، فلا وجود لخطابات البناء وتعمير الأرض في عالم يتم تصويره بشكل مستمر على أنه غير عادل، كما أنه غير باقٍ. هذه هي فكرة الإشباع النفسي الزائف للحاجة إلى تحقيق الذات من خلال تأجيلها إلى ما بعد الموت، مع تصوير للحياة بأنها رخيصة ليتحول الفرد إلى طاقة تدميرية تنسف الرخيص الزائل الدنيوي لأنها لم تجد هويتها الذاتية من خلاله، وتحيا في الدائم الثمين الأخروي لأنه يحمل فكرة وهمية حول تحقيق أنموذجي للذات. مع أهمية الوعي بأن هذه النزعة التدميرية لا تأخذ شكل تحقيق الذات بشكل مباشر، بل تقوم بتصويرها على أنها ذات متحققة فعلاً لكنها غريبة في محيطها، وبالتالي هي مهددة بالنسف، يشير فروم إلى ذلك من خلال تعريفه للنزعة التدميرية لدى الفرد: «تشير إلى رغبة الإنسان في تدمير الآخر قبل أن يقوم الآخر بتدميره. ويعني الانسجام الآلي تلك الخاصية النفسية التي تتجلى في تقبل الفرد لمطالب المجتمع والرضوخ إليها حتى ولو لم يكن مقتنعاً بها» (علم النفس في القرن العشرين، ص364)، ولعل الجزئية الأخيرة، من التعريف، هي ما يعيدنا لآلية الخضوع الطوعي كاستجابة نفسية للمحيط، الإخوة والأقران، رغبة في المماثلة وتحقيق الذات، وتتم من خلال «غسل الدماغ»: «عملية إيحائية إكراهية» (أطلس علم النفس، ص24)، فالانتماء للطائفة يصبح معه أي حل متوسط مداناً كما يقول ماكس فيبر: «إن الطائفة، وهي جماعة حصرية من محترفي الدين الذين ينخرطون في انتساب فردي بعد التثبت من الأهلية الدينية النوعية، ترفض أي نوع من التوسط حيال «الدنيا» لأن التوسط مدان» (فلوري، لوران: ماكس فيبر، ص77). بقيت الفكرة الجوهرية التي يتم إهمالها في الخطابات الدينية المتشددة، وهي فكرة الحضارة، أي أن فكرة البناء التي يأتي بها الأنبياء وحرص أتباعهم على نشر تعاليمها هي فكرة بناء حضاري متكامل، ينظر للفرد كما ينظر للجماعة، ويريد سعادة الفرد في الدنيا والآخرة كما يريد، بشكل أساسي، أن تسود الجماعة على الأرض من خلال مجموعة القيم التي يمكن تسميتها بالقيم الإنسانية العليا، القيم التي يتشاركها كثير من المجتمعات الإنسانية منذ بدء نزول الإنسان إلى الأرض وحتى اليوم، كقيم الحرية والعدالة والمساواة وغيرها من القيم العليا التي يمكن تسميتها بالقيم العامة. هذه القيم يتم إهمالها في الخطابات المتشددة لأنها تعمل ضد تعبئة الأتباع وجعلهم شخصيات تنزع إلى العنف والتدمير، ففي القيم الاجتماعية والإنسانية العليا دعوة للحرية والعدالة والمساواة، وهذا ما يتنافى مع ما يجب أن يحمله الفرد الذي ينزع إلى العدوان من رغبة في «نسف» الآخر وإلغائه. كما أن هذه القيم الاجتماعية العليا تُشبع «الحاجة إلى التعامل مع الآخرين وإقامة روابط معهم» بحسب هرم ماسلو للاحتياجات، وإشباع مثل هذا الاحتياج قد يؤدي إلى تقويض كل ما تقدمه الخطابات المتشددة لأتباعها لتكوينهم تكويناً نفسياً منقوصاً ومرتاباً في الآخر، وهو ما يصعّب مهمتهم في جعلهم قنابل موقوتة لا تعرف عن هذه الحياة إلا جانبها الأشدّ ظلامية ممثلاً في النزوع الدائم والمستمر، وحتى المقدّس، نحو التدمير.