أول يوم في المدرسة هو أسوأ يوم في حياتي، وحياة أغلبية من يقرأون هذا المقال الآن. فالمفاجأة النفسية والذهنية عظيمة، وجوه غريبة، ومكان جديد تتلاطم فيه مشاعرنا كالأمواج العاتية في بحر الشمال. أما أول يومٍ في الإجازة، فهو أسعد يومٍ في حياتنا جميعاً؛ يبدأ باللعب وينتهي بوجبة دسمة، ثم نوم عميق، وأحلام سعيدة خالية من أي خطط، حتى لأظن أحياناً أن أعمارنا الحقيقة هي التي قضيناها في الإجازات. كبرنا وصارت بعض البدايات تملأنا بالسعادة؛ لأنها تعيدنا إلى أيام الطفولة الجميلة دون أن نشعر. لا أدري لماذا يحب الإنسان البدايات كثيراً؟ ربما لأنها أكثر وضوحاً من النهايات. غداً هو اليوم الأول من عام 2012، والليلة سنعود كلنا أطفالاً مرة أخرى، نقلّب قنوات التلفاز لنشاهد الألعاب النارية، ثم ما إن تشرق شمس الغد حتى نصبح كالهواتف المحمولة، نحتاج إلى ضغط زر إعادة التشغيل لكي نتخلص من تشنجات العام الماضي، ونقبل على العام الجديد بسهولة وسرعة فائقة. توقفتُ منذ سنوات عن التخطيط المُفَصّل والدقيق لحياتي، وعلى رغم كل الدورات الإدارية التي حضرتها، إلا أنني مقتنعٌ اليوم بأننا كلما خططنا لحياتنا كثيراً؛ عبثنا في براءتها وزدناها فوضى. قبل سبع سنوات قررتُ أن أكتب جملة واحدة في أول يوم من العام الجديد لأحدد هويته بالنسبة لي، ومن ثم أترك لنفسي الخيار في الطريقة التي سأطبق بها ذلك الهدف. ففي عام 2005 كتبتُ «سنة الفلسفة» وعكفتُ طوال العام على قراءة كتب الفلسفة، ابتداءً من «قصة الفلسفة» لويل ديورانت، وانتهاءً بكتاب الفوضوي المجنون نيتشه «هذا هو الإنسان»، الذي بعثرني كثيراً حتى اضطررتُ إلى شتمه (أي نيتشه) ولكنني أحببته، على غرار (من حَبّك سَبّك). في عام 2010 كان شعاري «سنة الصحة»، والتزمتُ ببرنامج رياضي وغذائي لعامٍ كامل؛ فاستعدتُ -بفضل الله تعالى- صحتي وشيئاً من لياقتي، وكدتُ أقسم ألا أدع مجالاً للكسل ليُباغتني، أو للشحوم لتزاحمني. إلا أنني اكتشفتُ لاحقاً أنني صرتُ أكثر انضباطاً في حياتي بشكل عام، حيث علّمني مُدربي أن تدريب الذهن أهم من تدريبات البدن. وفي بداية عام 2011 كتبتُ «سنة الكتابة»، واستطعتُ -بفضل الله تعالى- أن أكتب أربعة كتب، نشرتُ اثنين منها، واثنان سأنشرهما في عام 2012 إن شاء الله، ليس هذا فقط، بل قرأتُ عدة كتب حول فنون الكتابة المختلفة، وجددتُ معلوماتي في النحو، وأدمنتُ تويتر .. نعم أدمنتهُ؛ لأنه دفعني للكتابة أكثر، ولفهم الناس أكثر. قال لي صديق قبل أيامٍ إنه يريد أن يكتب مقالاً عن التخطيط للحياة؛ ليساعد البعض في وضع أهداف للعام الجديد، ولكنه كان متردداً؛ لأنه -كما قال- ليس خبيراً في هذا المجال، ويخشى أن يتهمه الناس بأنه «يتفلسف». قلتُ له بأنه قد لا يكون خبيراً، ولكنه إنسان له تجاربه، خاض نجاحاتٍ كثيرة، وأخفق مرات كثيرة، ومن حقه أن يروي قصته للآخرين، فلكل إنسان قصة تستحق أن تُروى، ومن حق كل إنسان أن «يتفلسف». لا أستسيغ من يضع حروفاً كثيرة أمام اسمه (أ. د. م)، ولا أحب من يناديني «أستاذ ياسر»، فالنخبوية قد ولى زمنها، وكل من يظن أنه مؤهل أكثر من الآخرين فليستمع إلى الفتيات والفتيان الذين يجلسون على مقاعد الدراسة في الجامعات، وسيعلم أنه في حاجة إلى وضع حرف (ط) أمام اسمه. أعلمُ أنني تشعبتُ ودخلتُ في موضوع آخر، ولكنني أردتُ أن أكتب لكم اليوم مثلما أفكّر، لا كما أريد أن أفكر .. أكتبُ الآن وفي داخلي فتى اليوم الأول، ذلك الذي لم يفارقني يوماً؛ مُشتّتٌ كثيراً، ولكنني أحب شتاته الذي يشبه تبعثر أوراق الخريف على أرضية صخرية قديمة. أعلمُ أنكم تتساءلون الآن «وماذا كتبتَ للسنة الجديدة؟»، لا شيء، ولكنني أفكّر في أن أكتب «سنة الإعلام»، حيث أعكف حالياً على الإعداد لمشروعين إعلاميين، رغم أنني لا أحب الأضواء، وأتمنى أحياناً أن أعيش في كوخ خشبي صغير مُطلٍّ على بحيرة إنترلاكن في سويسرا، بشرط أن تكون فيه إنترنت بسرعة عالية، وآلة نِسْبريسو للقهوة، وزوجتي هَيَا التي لا أدري لماذا أعتقد جازماً بأنها السبب في كوني كاتباً .. آه، نسيت، لم أقل لها يوماً في العَلَن إنني أحبها؛ ولذلك قررتُ ألا ينقضي هذا العام دون فعل ذلك «هَيَا .. أحبك جداً». لا أدري هل ستوافق الصحف على نشر هذا المقال أم لا، ولكنها إن فَعَلت ذلك فاعلموا أن «الربيع الفكري» قد بدأ فعلاً. قبل أن يبدأ العام الجديد قولوا للتخطيط «ارحل بأه»، ثم اكتبوا شيئاً بسيطاً، وانشروا الحب، واستمتعوا بالحياة؛ فالسعادة أغلى من أن نؤجلها ليوم آخر.