فرحان بن سالم العنزي – أكاديمي وكاتب سعودي قبل أكثر من عشرين عاماً كنت أعيش في كنف والدي رحمه الله في منزل يحتوي على عدد لا بأس به من الغرف، ومجلس للرجال، وصالة لاجتماع العائلة، واستقبال النساء من الجيران والضيوف، ومطبخ كبير، ومنافع متعددة، إضافة إلى المقلط وهو غرفة كبيرة ذات مدخلين: أحدهما من جهة قسم الرجال، والآخر من جهة قسم النساء، يستخدم لتناول الوجبات والولائم الرسمية وغير الرسمية التي تعد للضيوف أو الجيران والأصدقاء. ومع أن المقلط يأخذ مساحة كبيرة نسبياً من المنزل، إلا أنه لا يستخدم في غير أغراض الضيافة، ومع ذلك فقد كان وجوده مهماً جدا، ولا يمكن الاستغناء عنه، لأنه يعتبر متطلبا أساسيا لمجموعة من المهام المرتبطة ببعض العادات والتقاليد الاجتماعية من استقبال الضيوف وإقامة الولائم ودعوة المعازيم، في ظل عدم وجود بدائل مناسبة من حيث المكان أو الخدمات، فلا يوجد في زمن والدي رحمه الله ما يعرف الآن بالاستراحات، ولم تكن المطابخ والمطاعم متوفرة، كما أن نفوس الناس كانت طيبة ولا يرفض أحد منهم الدعوة أبدا، بل يكاد لا يمضي يوم دون أن يجتمع الجيران عند أحدهم، مما يجعل غرفة المقلط من أهم منافع المنزل لارتباطه بمهام تتكرر بشكل شبه يومي، أمّا الآن في زمن الانشغال الدائم، وقطيعة الأرحام، وانعدام القوامة، وضعف التواصل الاجتماعي، فأعتقد أن مطاعم النفر والنفرين، ومقاهي الكوفي شوب، تفي بالغرض إلى حد كبير، وإذا لزم الأمر يمكن استئجار أقرب استراحة، وجميع المطابخ والمطاعم لديها خدمة التوصيل السريع، بمعنى آخر إن تخصيص غرفة في المنزل لتناول طعام الضيوف، في ظل الظروف الاجتماعية والمجتمعية الحالية، لم يعد مجدياً، حيث يمكن الاستعاضة عنها ببدائل عديدة، إذا دعت الحاجة لذلك، ولعل الصالة مرشحة وبشكل كبير للقيام بمهمة المقلط خصوصاً وأن العملية لا تستغرق أكثر من عشر دقائق. إن غياب المقلط عن دوره التقليدي هو نتاج طبيعي لتغيرات اجتماعية ومجتمعية متعددة، ولكن في نظري أن من غير الطبيعي استمرار وجود المقلط مع عدم وجود ما يدعو إليه، ولعل ذلك من مظاهر الجمود الفكري السائد في المجتمع في عدم القدرة على التعامل مع المتغيرات الجديدة، أعتقد أن جيل والدي كان لديهم من المرونة ما هو أكبر من جيلنا بكثير، حيث لم يجدوا غضاضة في تغيير طريقة حياتهم في العمل والسكن واللباس والكلام والعادات والتقاليد والعلاقات مع الآخرين، أما نحن فلم نزل نراوح في مكاننا، وعندما نتحدث عن التجديد والتغيير نأتي إلى مسألة أشد خطورة في الخلط بين الدين والعادات، والثوابت والمتغيرات، واللمم والكبائر، نتناقض كثيرا مع ذواتنا عندما نقول إننا نطبق السُّنَّة، وفي نفس الوقت نستهجن أن يعمل الإنسان بيده، أو أن يساعد الرجل زوجته في الأعمال المنزلية، مع أن الأنبياء عليهم السلام كانوا حرفيين ومهنيين ويساعدون نساءهم! نحكم على نيات الناس من خلال مظهرهم الخارجي بغض النظر عما يقومون به من تصرفات! نحتقر العمل المهني، مع أن حياتنا ترتبط وبشكل مباشر بالحرف والصناعات! المشكلة أننا مقتنعون بخطأ ما نقوم به من سلوكيات ولكن الاستمرار بالعيب أفضل لدينا من الشروع في البحث عن بدائل! من أجل ذلك، لا أستغرب أن يبقى حال المساكن لدينا بنظام المقلط والصالة معا كصورة واقعية لنمط التفكير لدينا، لأننا مجتمع ينظر بعين واحدة فقط، ولا يجيد سوى التقليد ولا يعرف ماذا يريد! وقفة: من غير ثوابت الوطن الراسخة، عندما نريد التغيير، لابد أن نعترف أولا بوجود المشكلة.