لاشك أن طبيعة العلاقة بين المواطنين والأسرة الحاكمة ومدى متانتها أو ضعفها لها تأثيرٌ في عملية التطوير السياسي، لكن ما قصدتُه من ذلك هو محاولة معرفة حجم إلحاح هذه العلاقة من الناحيتين العاطفية والأخلاقية على عملية التطوير وفاءً بمستحقات بين طرفين بينهما علاقة في ظلّ مخاطر تتهددهما معاً. بصراحة تحديد مستوى هذه العلاقة أمرٌ شائك، إذ لا توجد إضاءات قويّة كاشفة يمكن الاستناد إليها بالاطمئنان الكافي، لكن توجد مؤشرات يمكن الاستعانة بها، وحتى هذه المؤشرات نجدها تتناقض أحياناً وتتراوح بين القوة والضعف. عندما أنظر وأنا أحاول تحديد مدى قوة العلاقة أو ضعفها إلى ما يُنشر في وسائل الإعلام التقليدية (الرسمية وغير الرسمية) وعلى ما يُقال في المجالس الرسمية، أجد أن هناك ثناءً كثيراً متبادلاً ووداً كبيراً واضحاً مما يفصح عن علاقة متينة إلى حدٍ بعيد، ولكن عندما أنظر إلى ما يُنشر في المواقع الإلكترونية وإلى ما يتمّ تبادلهُ في المجالس غير الرسمية أجد انتقاداً يكون شديداً أحياناً، لا أقول متبادلاً ففي هذا الجانب لا يمكنني الاطلاع إلا على الجانب المتعلّق بالمواطن، وهذا الانتقاد يتركّز على أمورٍ من أبرزها الحيازات الكبيرة للأراضي، وبعض الجوانب الاقتصادية، والمبالغ الضخمة لتكاليف بعض المشروعات الكبيرة والهيبة الكبيرة التي تؤثر في مبدأ تكافؤ الفرص، والاستئثار بكثير من المناصب المهمّة والاحتفاظ بها سنواتٍ عديدة، وبصرف النظر عن حجم الدقّة والمبالغة والحق والتجنّي والصواب والخطأ في كل ذلك فإن تداول الأحاديث المصحوبة بالانتقاد يؤثر بالتأكيد في هذه العلاقة ويفصح لمن قد يعتمد على هذا الجانب بأنها ليست بالمتانة التي يعبّر عنها الجانب السابق. وعندما أنظر لما يُنشر في الصحف المحلّية عن بعض الأحداث والمناسبات التي تخصّ المواطنين مثل الأفراح والتعازي أجد تقديراً كبيراً متبادلاً، مما يعطي الانطباع بمتانة العلاقة، أما عندما أنظر لمناسبات أفراح الزواج لأفرادٍ من الأسرة الحاكمة التي يعلن عنها في الصحف المحلّية على صفحات كاملة فإنني لا أجد ما يعبّر عن انسجام وتقارب بين الطرفين، إذ يقتصر الحضور في تلك المناسبات «في الغالب» حسب الصور المنشورة، على أفراد من الأسرة الحاكمة، ومن النادر وجود مدعوّين غيرهم، الأمر الذي يعطي الانطباع «الذي قد يكون غير صحيح» بالتباعد، بل بحصول فجوة ظلّت تتسع وبالتالي عدم متانة العلاقة، وأقول «قد يكون غير صحيح» لأنني لا أعلم بدقة هل السبب من الصحف التي تنتقي صوراً محددة تسلط الضوء على أبناء الأسرة مع وجود مدعوين حاضرين من المواطنين، أم أنه لا يوجد مدعوّون يحضرون من خارج أفراد الأسرة الحاكمة، وسواء كانت جناية الصحف، أو هي الحقيقة فإنها تعطي الانطباع الذي أشرت إليه. ولو واصلنا الرفض بهذه الطريقة بالاعتماد على المشاهد والأقوال لربما طال بنا الأمر وضللنا هكذا بين مدٍّ وجزر، ولذلك سأستخدم أسلوباً آخر رُبما أكثر دلالة ومدعاة للاطمئنان لخلوِّه من تأثير مجاملة المجاملين وتحامل المتحاملين وهو الأحداث التاريخية وأساليب إدارة الدولة والتعامل مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وما يماثل ذلك، وسنقسّم هذه الأمور إلى قسمين: القسم الأول يختصّ بعوامل القوّة، أي تلك التي يُفترض أنها تقوّي العلاقة، والثاني يختصّ بعوامل الضعف أي تلك التي يفترض أنها تضعفها. وإذا بدأنا بعوامل القوّة فلابد أن نبدأ من تكوين الدولة الذي تمّ بذلك الجهد الخلّاق والتضحيات الكبرى التي قام بها الملك عبدالعزيز -رحمه الله- والرجال العِظام من الآباء والأجداد، التي بها بنوا وطننا الكبير المعطاء الذي أصبح دوحة دافئة وارفة الظلال لآبائنا ولنا ولأبنائنا وأحفادنا من بعدنا إن شاء الله. وكان الملك عبدالعزيز في أسلوب إدارته البلاد كبيراً وعظيماً، فقد سما فوق المادّيات متطلعاً إلى ما هو أعلى وأبقى وهو حبّ المواطنين وتآزرهم معه في بناء الدولة والحفاظ عليها، ولذا كان هو الرمز الكبير للوطن ووحدته ومحلّ التقدير البالغ من الجميع، كما أنّ أبناءه الذين حكموا بعده كانوا يرونه قدوتهم ويحاولون السير على خُطاه مستفيدين من حكمته وبُعد نظره، وكان من نِعم الله أن وهبنا الثروة النفطية الكبيرة، فاستعانوا بها وشيّدوا البلاد بمعونة المواطنين على ذلك النحو الذي نراه الآن. ولو تأملنا في وضع القيادة الحاليّة فإننا سنجد أن الملك عبدالله مصدرٌ كبيرٌ لاطمئنان المواطنين بما تبثّه شخصيته وأحاديثه وقراراته وأسلوبه في التعامل من شعورٍ بالأبوّة الحانية وبالارتياح والثقة، أما وليّ العهد الأمير سلمان، فقد أثبت خلال تاريخه الطويل بأفعاله وتصرّفاته أنه ذلك المسؤول الحريص على بناء العلاقات الوطيدة مع المواطنين، وأنه رجل المهمات الصعبة، ورجل الدولة الموثوق الذي يرى أن الحفاظ على هذه الدولة وصيانتها من الأخطار من أقدس مهامّه وأهمّ واجباته. ولاشك أنّ هذه الأمور أوجدت في نفوس المواطنين مودّة للأسرة الحاكمة وتقديراً لها، أي أن المواطن بهذا كان على مستوى المسؤولية في الوفاء والتعبير عن الامتنان. ولكن في مقابل عوامل القوة هناك عوامل ضعف ظلّت تؤثر بالسلب في هذه العلاقة بالتدريج وتكبُر ويكبُر أثرها حتى أصبحت على ما هي عليه من تأثير سلبيّ واضح على ذلك النحو الذي تحدّثنا عنه في الجزء الرابع من هذه السلسلة وعبّرنا عنه ب(رياح التدمير)، فالبطالة تزايدت إلى حدٍّ مقلق في ظلّ وجود عمالة ضخمة لها تأثيرات سلبيّة كبيرة، وسياساتنا التعليميّة والاقتصادية والاجتماعية لم تنجح في تحويل قوّتنا النفطية إلى قوّة إنتاجية فحوّلتنا هذه القوّة النفطية إلى قوّة استهلاكية فتراجع نشاطنا وكفاءتنا وإنتاجيّتنا وأصبحنا نعتمد على العمالة الوافدة، ومهدّدين بمصيرٍ صعب على المدى المتوسّط حين تتراجع إيراداتنا النفطية لأننا لم نوجد البدائل اللازمة، ولا يبدو في الأفق أننا نسير بنجاحٍ في هذا الاتجاه، وكذلك فالفساد الإداري والمالي قد تفشّى في الأجهزة الحكومية وغير الحكومية، كما يُضاف لكل هذا تلك الأمور التي قلتُ في بداية هذا المقال إن النقد يوجَّه للأسرة في المجالس بسببها، والتي قلتُ إنه من الصعب معرفة درجة الحقيقة والتجنّي بدقة فيها، ولكنها تظلّ مادة للحديث والنقد، وهذا يكفي للتأثير بالضعف في العلاقة. أستطيع أن أخلُص من كل هذا إلى أنه على الرغم من تلك الفجوة التي تتسّع وتلك الرهبة المؤثرة في مبدأ تكافؤ الفرص، فإن العلاقة كما تبدو لي فيها قدرٌ كبيرٌ من القوة والمتانة، ولذلك فإنها فرصة كبيرة لنا جميعاً الآن مواطنين ونظاماً أن نستغلّ هذا الظرف الذي مازال مواتياً ويوفّر قدراً كبيراً من إمكانية التعاون لتطوير نظامنا السياسيّ بشكل يكفل لنا التغلّب على المخاطر المحتملة التي أوجدتها مستجدّات كثيرة أصبحت تتطلّب أساليب مختلفة في طريقتنا لإدارة أوضاعنا. كما أن ذلك الوفاء الكبير من المواطنين الذي تمّ التعبير عنه على لسان أكثر من مسؤول وفي أكثر من مناسبة، وتلك العلاقة العاطفيّة المؤثرة والتقدير الذي يعبّر عنه المواطنون تجاه القيادة والأسرة، يفرض في رأيي استحقاقاً قويّاً، إذ أن المواطنين بكل ذلك يُصبحون جديرين بأن يشعروا بأهميتهم في وطنهم، وبأن يُعلى من شأنهم، بحيث يشعر كل واحدٍ منهم بقيمته وأهمية رأيه واختياره حين يقارن نفسه بأمثاله في الدول الأخرى بحيث لا يبدو أقل منهم شأناً. إن أسرتنا الكريمة التي لاشكّ أنها محلّ التقدير والمودّة، مؤهلة الآن لأن تُحدث تلك النقلة التاريخية المهمّة التي حان أوانها، والتي ستُحسب بالتأكيد لها في التاريخ وتُعلي من شأنها في الداخل والخارج، وستجعل تلك العلاقة تزداد قوّة فيُسهم التعاون البنّاء بينها وبين المواطنين في رسم مستقبل مُشرق للوطن بإذن الله.