إحدى تعريفات «الأمة الأمريكية» – كما يعتقد الأمريكيون- أنها الأمة التي يتساوى مواطنوها في الفرص. والأمريكيون يؤمنون بأن كل فرد أمريكي له الحق في فرص النجاح وصعود السلم بنزاهة من خلال: المواهب، والإبداعات، والذكاء، والعمل الدؤوب، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، بما فيها ظروف ولادة الفرد حتى صار أمريكيا. هذا القول أيضا أعاده الرئيس باراك أوباما في خطبة له في الخريف الماضي «يجب أن يتأكد كل الأمريكيين ويكونوا على ثقة بأن جميعهم يحصلون على جرعة عادلة من فرص النجاح». لا أقول جديدا إن زعمت أن هذا روتين الحياة الأمريكية في كل مجالاتها. فهذه الأقوال يرددها كل مسؤول أمريكي، وكل رئيس مرشح ومنتخب. والأمريكيون لا يحتاجون «وسائط» لصعود السلالم، فلا توجد طرق مختصرة short cut سوى «الجدارة». أن تكون جديرا يعني أن تصل. لدى الشعب الأمريكي إيمان عظيم بمبدأ «الجدارة». بينما تؤمن الشعوب الأخرى بعوامل أخرى تطغى في أهميتها على الجدارة هذه. عوامل سارية مثل: الأصل، والعلاقات الشخصية، أو الحظ والحظوة. بدون تلك التوليفة، غالبا، يصبح النجاح والاستحقاق أشبه بحكايات الأساطير. قام المجتمع الأمريكي بتهيئة وتقويم لكثير من شؤونهم الحياتية التي صنعت من مجتمعهم مجتمعا أفضل من خلال النقد البنّاء. كلمة النقد في الإنجليزية Criticism والألمانية Kritikos والفرنسية Critique هي تعني: القدرة على الحكم على النواقص، والأخطاء، والأشخاص بطريقة واضحة. هناك ثنائية بين النقد وبين البناء، حيث يصبح النقد نقدا استراتيجيا هادفا. وقد قام جزء كبير من النقد – الاستراتيجي – الأمريكي على التهكُّم الساخر. كثير من هذا التهكُّم ناقد في حد ذاته. وإن كانت سخريته لاذعة لكنها عميقة الأثر. للسخرية جانبان مهمان. الجانب الأول هو تقويم الخطأ، وهنا الهدف. الجانب الآخر هو أن السخرية تمتص الطاقة السلبية للشعب، تماما كما تفعل الإسفنجة بالماء. فالأمر بمثابة إفراغ ضغوطات أيضا بطريقة صحية.النقد هو وسيلة لتعرية الخلل، ولشرح عوامل النقص، وللتحفيز أيضا. وإذا كان ساخرا كوميديا فإنه يأتي بصيغة «صادمة» وعميقة. هذا ما يقوم به الفاعل وهم الناقدون. وعلى المفعول به أو المنتقد أن يستجيب لنقد القصور في إنجازاته، حين يكتشف صورا أخرى خلاقة لتقويم الأخطاء، وإيجاد الحلول. باعتبار أن كل قرار أو فعل قابل للمراجعة والتصويب والتعديل. وعدا ذلك لا يكون أحد منَّا موضوعيا. يعوّل الأمريكيون كثيرا على النقد الساخر مع ولع بفن الدعابة. ولا عجب أن تلقى برامج ساخرة تتصدر قائمة أهم البرامج في أمريكا مثل برنامج «ذا دايلي شو» لجون ستيوارت. وهي برامج تنتقد الداخل الأمريكي والقضايا الأمريكية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومن يمثلونهم. تماما كما تنتقد الخارج وشؤون حلفاء أمريكا وأعدائها. وهذا الأمر كان يفعله ستيوارت في برنامجه من خلال السخرية اللاذعة التي يوظفها في النقد «الاستراتيجي». ولا يمنعه النقد الاستراتيجي من الدفاع عما «يخالف» التوجهات، إن كان فيه الحق والمصلحة، مثلما فعل حين دافع عن فكرة بناء مسجد في نيويورك في «جراند زيرو» قريبا من برج التجارة العالمي، وخصص وقتا من برنامجه لنقد إطلاق صفة الإرهاب على المسلمين، وانتقد سويسرا لمنعها المآذن، وسخر من القس المتطرف الذي دعا لحرق المصحف في فلوريدا، وانتقد انحياز سياسيين لإسرائيل في الصراع مع الفلسطينيين، هو اليهودي الأمريكي!. إذن هكذا يكون التعريف الأفضل للنقد الاستراتيجي الموضوعي. ونعود إلى ثنائية النقد والبناء. النقد يقوم على المعرفة. وحين ننتقد فعلا ما فإننا نرى بدائل أفضل لهذا الفعل ونسعى إلى تقديمها، وقد يكون من خلال النقد الساخر نفسه. فنقد تشييد المآذن يعني تأييد تشييدها. لكن نقد اتخاذ وزارة ما قرارا معينا، دون تقديم بدائل وأسباب، هذا ينفي عن النقد صفة «الإستراتيجي». وربما أجد العرب لا سيما السعوديين يتدربون جيدا على النقد الساخر من خلال برامج شباب اليوتيوب، وفي وسائل التواصل الاجتماعي. تبدو مواقع التواصل «حيّة» طازجة مثل تليفزيون الواقع. وقد يضاهي النقد الساخر الحي والجمعي ما تلعبه قنوات أخرى من أدوار في هذا الشأن، إذا تعذر نقد بعض الأمور من خلالها. في موقع عالمي باللغة الإنجليزية متخصص بالنقاشات والآراء والتصويت حول القضايا الجدلية كان هناك سؤال للتصويت وآراء الأعضاء يقول: هل يمكن تسميتك وطنيا في حال انتقدت حكومتك؟. أجاب %91 من الأعضاء بنعم، مشيرين إلى أن ذلك من الواجب، وأن النقد هو مفتاح الوطنية الأهم، وهو خط دفاعي افتراضي، لأن المسؤولين يقودون شؤون الشعب، والشعب يسعى للتعبير عما يريد ويراه مناسبا له ليشعر بالرضا. والنقد هو بمثابة تعليق على ما يحدث، ورد فعل لما يحدث. فالمطعم الذي يقدّم لنا خدمة جيدة ووجبة عشاء جيدة، مثلا، نشكر موظفيه ونقدم لهم «بقشيش». والمطعم الذي يقدّم لنا وجبة عشاء سيئة، بطبيعة الحال، لا نقدم له البقشيش بل نطلب المسؤول للنقد والشكوى. فيقوم المسؤول بدور تقويم الموظفين وتقويم العمل. هكذا.