يقول تعالى ذاماً من خالف فعلُه قولَه (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)، يعني تعظون الناس ولا تتعظون ، تنصحون الناس ولا تنتصحون، تأمرون بالمعروف ولا تأتونه، وتنهون عن المنكر وترتكبونه، قولكم جميل، وفعلكم قبيح، النطق حسن، والفعل سيئ ، تزكون الناس بكلامكم وأنفسكم مقفرة من البر، موحشة من الهدى، يستنير الناس بوعظكم الخلاب ونصحكم الجذاب، وأنتم في ظلمة المعصية واقفون، وفي ليل الخطايا حائرون، إن من أعظم النكبات على دين الله إخفاق حملته ودعاته في العمل بتعاليمه، حينها يصبح فعل هؤلاء حجة قاطعة لكل مارق، وبيّنه واضحة لكل منافق يرتكب المعصية، بدليل فعل هؤلاء السيئ، ويترك الطاعة بدليل عمل هؤلاء الخاطئ، فلا يثق الجهلة بنصوص الشرع، لأن أناساً ممن يحملون هذه النصوص عطلوا العمل بها والاهتداء بهديها والانتفاع ببركتها. الطبيب إذا تناول السم أمام المريض كيف يثق فيه المريض أو ينتفع بدوائه وعلاجه؟ وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل الخياط إذا مزق الثوب فقد مصداقيته في الخياطة، النجار إذا كسر الباب خسر ثقة الناس في معرفته وحذقته، والدعاة إلى الحق والفضيلة إذا أهملوها وهجروها غسلت الأمة أيديها منهم، يصبح كلامهم الرنان رماداً تذروه الرياح، يصبح وعظهم البليغ منقوشاً، تصبح كتاباتهم وتآليفهم ركاماً من الزيف والغش والبهرجة. وحمل الرسالة بالذات أمناء على الملة، أوصياء على الجيل، حفاظ للمبادئ، فأي عثرة منهم ثلم في جدار الشريعة ، وحرج في جسم الديانة. إن الربانية في العلم والدعوة ليست عمائم كالأبراج، ولا أكمام كالأخراج، والفتاوى معلبة جاهزة ترضي أهل الشأن، ويكسب من ورائها الدرهم والدينار، والمنصب والعقار(( يؤتى بالرجل فيدور في النار فتندلق أقتابه كما يدور الحمار برحاه، فيقول أهل النار؛ مالك يا فلان؛ ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ، قال: بلى ، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه، هكذا وصف المعصوم صلى الله عليه وسلم هذه الفئة ومصيرها عند الله عز وجل، وأحد الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة، قارئ قرأ القرآن ولم يعمل به. إنّ حفظ المتون، وجمع الفنون، وإلقاء الخطب الرنانة، والجلجلة بالمواعظ الطنانة، سهل يسير ، يجيده الجمع الغفير، ويقوم به كثير، لكن تطبيق هذه التعاليم والعمل بها، وتنفيذ أوامرها، واجتناب نواهيها، والصدق في حملها، ومراقبة الله في دلالتها أمر شاق صعب متعب لا يقوم به إلا ربانيون طهرت أرواحهم ، زكت أخلاقهم ، حسنت سيرتهم، وصفت سريرتهم: يا أيها الرجل المعلم غيره هلاّ لنفسك كان ذا التعليمُ أبدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ يا أيها الدعاة إلى المبادئ المقدسة، يا حملة الرسالة ويا أمناء الكلمة، لِمَ تقولون ما لا تفعلون.؟! فقهاء في القول، جهلة في الفعل، أولياء على المنبر، عتاة في الميادين. إن دمعة من خاشع أصدق من مائة خطبة من واعظ، وإن قطرة من شهيد أبلغ من مائة قصيدة حماسية من شاعر، وإن غضبه لله من عالم أوقع في القلوب من مائة درس في النهي عن المنكر. إن أعظم ما يفعله صاحب الدعوة أن يكون سراجاً وهاجاً بعلمه وصدقة وإخلاصه وخلقه، إن فرعون قال: ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) ويشهد الله أنه كاذب خبيث ماكر، والمنافقون قالوا: نشهد إنك لرسول الله، فقال الله: ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) والرعديد الجبان يقول في غزوة تبوك: (( أئذن لى ولا تفتني)) أي أخشى على نفسي الفتنة إذا غزوت الروم من فتنة النساء، فيقول الله: ( أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ). إن مصيبة أحبار اليهود ومن شابههم من هذه الأمة أنهم تعجلوا ثواب علمهم في دنياهم الفانية الزهيدة، أرضوا الناس بسخط الله فطوعوا النصوص لشهواتهم، ولووا أعناق الأدلة لأهوائهم، إن خدم الدليل مقاصدهم فهو ثابت محكم صريح، إن عارض الدليل أغراضهم فهو محتمل مؤول له وجوه وله معان أخرى، إن وقعوا في ملذات الدنيا استدلوا بقوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) إن تركوا الأمر والنهي والقيام لله ذكروا الحكمة والرفق واللين، إن سعوا للمناصب والجاه أوردوا قول يوسف عليه السلام: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) والله عز وجل لا يلعب عليه كما يلعب على الصبيان، ولا يخادع كما يخادع الولدان، فهو العالم بالسرائر، المطلع على ما في الضمائر، العليم بالنيات، الخبير بالخفيات: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) . ويلكم من الله: معكم كتاب من الله فيه الهدى والنور وأنتم تعلمون ما فيه فهلا زجركم علمكم بالكتاب عن فعلكم المشين؟! هلا أثر فيكم هذا الكتاب الذي تدرسونه لأن العالم بحجة الله ليس كالجاهل بها، والمطلع على شرع الله ليس كالغافل عنه: (كونوا ربانييّن بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون).