يحتار المرء في تقييم تفكير ومنطق هؤلاء، حيث في وطننا توجد فئة من المأزومين لا ترى في الوطن شيئاً حسناً، فلدى هؤلاء «كل شيء سيئ»، و»كل شيء مرفوض» و»كل شيء متخلف» و»كل الأوضاع لا تطاق»، وهم يعيشون بيننا، يأكلون ويشربون ويلبسون ويعملون، وبعضهم مترفون جداً، وبعضهم متوسطو الحال، وليس بينهم فقراء إلا نادراً. وأكثر ما تجد هؤلاء في بعض المجالس، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وأحياناً قليلة في الصحف، وبعضهم لا يتورع عن وصم من يخالفه بالمنافق، أو على الأقل المستفيد من سوء الأوضاع كما يرى، و»سوء الأوضاع» هذا عند هذه الفئة يشمل كل شيء ابتداءً بالنظام السياسي ومروراً بمشروعات التنمية وخطوات الإصلاح، وانتهاء بالناس أنفسهم، فهم متخلفون لا فائدة من حياتهم أصلاً، باستثناء هذا الأخ الناقد الناقم على الوطن كله. ابتُليتُ بأحدهم ذات يوم وهو ميسور الحال، فقلت متسائلاً: لماذا لا تقذف ببطاقة الأحوال وتتوكل على الله إلى حيث تستريح وتربح؟ فأجاب منفعلاً: هذا ما يريده أمثالك من «……..»، لكن هذا وطني وأرض آبائي وأجدادي. قلت: حسناً، لكن وطنك هذا كله متخلف كما تقول، وآباءك وأجدادك كانوا كما تردد متخلفين، وخَلفَهم من أندادك لاشك متخلفون، والقادمون من الأولاد لن يرثوا غير التخلف، فما الذي يبقيك بين قوم هم ووطنهم يرفضون بقاءك بينهم لأنهم لن يرتقوا إلى مستواك، ولن يتقدموا، وكأنهم يعاندونك، أو لا يفهمون ما تقول، فدعهم يرحلوا برحيلك عنهم على طريقة المتنبي الذي قال: إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم أنصت لي على غير عادته ثم علق قائلاً: مع الأسف أنت أحدهم ولن تفهمني. قلت: بلى أفهمك ولكنك لا تملك سوى عين واحدة مع الأسف، وافترقنا مختلفين، وبقيت متخلفاً في نظر صاحبي. وطننا ليس جنة الخلد، لكنه ليس جهنم الحمراء ونحن لسنا ملائكة، لكننا لسنا شياطين. ووطننا ونحن لم نصل بعد إلى مصاف العالم الأول لكننا وطناً وشعباً لسنا متخلفين، الإيجابيات والإنجازات في وطننا وناسنا أكثر بكثير من السلبيات، نحن من أفضل -إن لم نكن أفضل- الدول النامية على الإطلاق، ووطننا بما تحقق له من منجزات مادية ومعنوية، وما لديه من إمكانات مادية وبشرية، يستطيع بسرعة –إذا توفرت الإرادة والإدارة– أن يكون في مصاف العالم الأول خلال عقدين من الزمن على أبعد تقدير. كل خطوة نحو الأمام لها شروطها ومتطلباتها، وإذا تخلصنا بصورة فاعلة من بعض الأخطاء والمعوقات الجوهرية التي يجري علاجها ببطء أو بدون فاعلية، فإننا نملك شروط ومتطلبات التقدم خطوات وليس خطوة واحدة. وفي الواقع هذا هو الذي يحدث، فنحن نتقدم لكننا نطمح أن نزيد سرعة التقدم لتكون ملائمة للعصر مواكبة للتطلعات والطموحات. ومع كل هذا الطموح وما يعيقه فعلاً فإن واقعنا وطناً وشعباً لا يستحق أن ينظر إليه بعض أبنائه هذه النظرة السوداوية المجحفة، ولا يجوز أن نسمح لهؤلاء بترويج أحكامهم غير الموضوعية وغير المنصفة إطلاقاً، بل إن من واجبنا الوطني والأخلاقي تنويرهم، فإن لم يجد الحوار والتنوير فاحتقار أفكارهم وكلامهم لأنهم إما أن يهرفوا بما لا يعرفون، أو أنهم فعلاً ناقمون حاقدون، إذ لا يقبل عاقل من أي إنسان أن يحكم على وطن كامل –أي وطن– بالسوء والتخلف مهما كانت أوضاعه وحالته، فما بالك إذا كان هذا الإنسان من أبناء الوطن نفسه! لقد أصبحت «الموضوعية» مطلباً عزيزاً من بعض الناس مع الأسف، ومع أن هذا يزعجني، لكنني أعرف بثقة أن لا أثر يُذكر لهؤلاء المتذمرين والناقمين على كل شيء، بل إنهم غالباً مثار سخرية وتندر، وحين أكتب عنهم فإنني لا أسعى إلى التحذير منهم، أو تكميم أفواههم -معاذ الله- حتى لو قالوا ذلك خارج الوطن في تجمعات جماهيرية، لكنني أكتب داعياً إلى محاورتهم رغبة في استصلاحهم وتقويم اعوجاج أفكارهم من أجل أنفسهم، فهم في النهاية مواطنون ويهمنا أن يكونوا عقلاء راشدين منصفين، وحتى لا يظن من يسمعهم أو يقرأ لهم من غيرنا أننا لا نعرفهم، ولا نقدّر ما هم فيه من أزمة مع أنفسهم وعقولهم شفاهم الله.