الرأسمالية الغربية بقيمها التي ترتكز على العلمانية والديمقراطية أصاب عضلاتها التكلس، وأشجارها التي ازدهرت بفعل التنوير الأوروبي جفّ ماؤها وذبلت أوراقها. اختفت ثقافة عصر التنوير أو كادت. ولا نجد في الفكر السياسي الغربي حالياً من يشير في أدبياته إلى ذلك الموروث الإنساني العالمي، ما عدا قلة من الفلاسفة الذين يناضلون لأجل استعادة أوروبا عصر التنوير من ظلامية الأصولية المسيحية المتطرفة. منهم على سبيل المثال (يورغن هابرماس، ريجيس دوبري، تودورف، إدجار موران... إلخ)، كيف انقلبت أوروبا على ثقافتها التنويرية؟! يكفي النظر إلى ما كتبه هؤلاء الفلاسفة ليتأكد للقارئ حجم المأساة والأزمة التي تعاني منها الثقافة الأوروبية؛ إدجار موران «ثقافة أوروبا وبربريتها»، أو تودورف «روح الأنوار» و»الخوف من البرابرة»، أو يورغن هابرماس «الحداثة وخطابها السياسي»، أو روبرت يون «أساطير بيضاء»، أو ماكس هوركهايمر وتيودور أدرنو «جدل التنوير». هنا نجد سلسلة من المرجعيات تمتد من أوائل القرن العشرين إلى نهايته. جميعها تؤكد على حقيقة أزمة الحضارة الغربية في عمقها الإنساني والثقافي؛ الأمر الذي أفضى -حسب تنبؤات هذه الرؤيا في القرن الحادي والعشرين- إلى جملة من التداعيات، أصبحنا نتلمس بعض جوانبها في ناحتين اثنتين سنتطرق إليهما على التوالي، أولاً ظاهرة صعود سلطة رجال الدين إلى مصاف سلطة السياسيين، في تحالف ينم عن عودة سلطة الكنيسة، والمنظمات الدينية وثقافتها، وتشعب نفوذها في أنحاء أوروبا والعالم أيضاً. الرئيس الفرنسي ساركوزي الذي لا يتوانى بين فينة وأخرى بالتصريح بضرورة حماية مكتسبات الدين المسيحي (في إشارة إلى ما يسمى بالعلمانية الإيجابية، التي تعني عدم اعتراض رجال الدين على اشتغالهم في السياسية أو الفضاء العمومي)، حسب ما أورده المفكر المغربي سعيد ناشيد في أحد مقالاته، قام باستقبال البابا بنديكتوس السادس عشر في أحد مطارات باريس، لأجل المشاركة في احتفالات ذكرى مرور 150 عاماً على معجزة ظهور مريم العذراء داخل إحدى مغارات مدينة لورد الفرنسية. في صربيا أيضاً أعيدت إلى الكنيسة الأملاك والأراضي التي صودرت منها في العهد الشيوعي بقيادة تيتو. وكذلك أعيد التعليم الديني إلى المدارس والجيش والسجون. وقد قامت الحكومة ببناء ستمائة كنيسة. الفيلسوف الصربي نينا جاكوفيتسش قال مرة «إن صربيا تشهد قومية دينية غير ديمقراطية». في الدنمارك والنرويج وألمانيا وكذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية لابد للرئيس المرشح للرئاسة أن يكون منتمياً لإحدى الكنائس، وأن يختار له القس الذي يلتحق بحملته الانتخابية؛ لذلك عندما يتحدث الساسة العلمانيون الغربيون عن مفهوم الحياد الديني كإرث علماني يعتزّون به ويفتخرون، تشعر بالاشمئزاز والسخرية من كلامهم. فعن أي حياد يمكن الحديث عنه هنا. في عام 2007 عقد مؤتمر أكاديمي في جامعة فريبورغ في سويسرا، طُرحت فيه مسألة الحياد، وأهميته في الدول العلمانية الغربية في تعزيز الاستقرار والتعايش بين الأديان كافة. لقد واجه المؤتمر معضلة سن القوانين بين الرجل المسلم الذي مرجعيته النص المقدس من خلال مفهوم الحلال والحرام، والرجل الغربي الذي مرجعيته الدساتير الوضعية، الذي لا يدرك معنى القانون في إطار مفهومي الحلال الحرام. أحد القانونيين وهو كريستوف فينتسلر يقول «رغم أن دساتير الدول الأوروبية تضمن حرية المعتقدات الدينية وممارستها كنوع من المساواة بين الجميع، فإنه يعتقد وجود صعوبة في تطبيق الحياد الديني على المستوى العام؛ لوجود علاقة بين الانتماء الديني وفلسفة الحياة في الدول الغربية». في حين أن على الدولة أن تبقى -وفق مفهوم الحياد الديني- بعيدة عن تمثيل اهتمامات المؤسسات الدينية، إلا أنها تفرض قواعد معينة لا تراعي فيها الخصوصية الدينية في ملفات مثل التعليم وقضايا الأحوال الشخصية وبعض شؤون الحياة العامة، وبالتالي فقد خرقت الدول هنا -حسب رأيه- مفهوم الحياد الديني. ثانياً، ظاهرة طغيان سلطة المال واقتصاد السوق على ذهنية الساسة الأوروبيين، وأثر ذلك وتداعياته على الديمقراطية، أو ما يسمى بالليبرالية الاقتصادية في أقصى حالاتها. وقد رأينا تداعياتها في أزمة اليورو على الاتحاد الأوروبي. فأزمة اليونان، ومن ثم إيطاليا، نبّهت المنظمات المدنية إلى اختطاف الديمقراطية من طرف «حيتان السوق». لقد وقعت الانتخابات تحت رعاية البنك المركزي الأوروبي. لوكاس بابديموس الرئيس السابق للبنك المركزي في اليونان وهو تكنوقراط لم تجلبه صناديق الاقتراع إلى السلطة، وإنما فرضه المتحكمون في السوق من رجال الأعمال. كذلك أيضاً حدث مع ماريو مونتي رئيس الوزراء الجديد في إيطاليا خلفاً لبرلوسكوني. هنا يتساءل الفيلسوف الفرنسي إيف شارل زاركا «كيف يمكن أن تؤلف دول تشهد تراجعاً في الديمقراطية اتحاداً أوروبياً ديمقراطياً؟»، يجيب الفيلسوف هابرماس من زاويته على هذه الأزمة، انطلاقاً من الرؤية الدستورية للاتحاد الأوروبي؛ إذ يرى أن الإرادة السياسية للاتحاد في تنشيط الديمقراطية تتمثل في إرغام الحكام الأوروبيين على النظر في أدوارهم من منظور مختلف، أي خارج تأثير منطق السوق الذي أفقر كثيراً الرؤية الإبداعية للسياسة الفكرية الأوروبية. نستكمل تداعيات هذا الصعود على الإسلام السياسي في مقال آخر.