يبدو أنّ بعض التقاليد والعادات تجذرت في المجتمع حتى أصبحت كالمسلمات، ومع وجود ما يعارضها عقلاً وشرعاً، إلا أنها اكتسبت صفة الثبات في ظل غياب الوعي، وانقياد أغلب الناس لسلطة العُرف والسائد، وإن كان بخلاف قناعاتهم ورؤاهم؛ التي يُضحون بها في سبيل رضا المجتمع، وابتعاداً عن المشكلات التي تجلبها محاولة التغيير. ومن الأمثلة الدالة على ذلك ما يحدث في أيام العزاء التي تم تحديدها عُرفاً بثلاثة أيام، مع أن لبعض علماء الشرع رأياً مشهوراً في أنّ العزاء ليس له أيامٌ محدودة، وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ الألباني رحمهم الله، وكذلك فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء التي نصها: «وليس للتعزية وقتٌ محدد، ولا مكانٌ محدد» (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء»9/134»). وتبدأ (مراسم) العزاء بتحديد مكانٍ خاص به؛ قد يكون منزلاً أو (صِيوانًا) أو ساحةً تتفاوت مساحتها ونوعها؛ حسب جنس الميت ومكانته، وعدد أهله وذويه وأفراد عشيرته، وكثافة المعزين في وفاته، ليصبح ذلك المكان مقراً لاجتماع جميع أهل الميت وأقربائه، ومعظم -إن لم يكن كل- أفراد العشيرة التي ينتمي إليها، الذين تجبرهم الأعراف والتقاليد على الحضور شبه الإجباري طوال الأيام الثلاثة حتى أنّ بعضهم يضطر لترك عمله وتكبد مشاق السفر الطويل، ليقوم (بالواجب) المتوارث، ومن يتغيب عن الحضور فلن يسلم من التقريع واللوم والإحراج! وفي أثناء ذلك الاجتماع تُقام الولائم الدسمة للوجبات الثلاث -في أغلب الأحيان- وتدور كؤوس القهوة والشاي بين الحاضرين المتسمرين منذ ساعات الصباح الباكر وحتى الانتهاء من تناول طعام العشاء، ويكثر الكلام وتتنوع (السوالف) والحكايات وينتشر اللغو واللغط الذي قد يتحول إلى التهريج والمزاح، لتتحول المواساة إلى معاناة؛ يتكبد مراراتها ذوو المتوفى الذين لا يهنئون براحة ولا ينعمون بسكينة، لتزيد (طقوس) العزاء من عذاباتهم، وتضيف آلاماً إلى آلامهم ومعاناتهم، ولسان حالهم يقول: متى تنتهي هذه الأيام البائسة لنضمد جراحنا ونترحم على فقيدنا؟! ختاماً ماذا لو شاهد الميت مراسم العزاء؛ هل سيعدها حزناً على فقده، أم مهرجاناً للاحتفال برحيله؟!