هل يعرف السعوديون “التاريخ” خارج مناهجهم المدرسية؟ وهل أحبوا دراسة هذه المادة أصلاً؟. هناك قلة مسحورة بالتاريخ لكنها عرفَته دائماً خارج فصولنا الرتيبة، وهي التي تعيد إلينا دهشة قراءة تلك النصوص الجامدة..! في شمال هذه البلاد أثر تاريخي فريد اسمه “مدائن صالح”. لا بد أنكم درستموه أو قرأتم عنه، بعضهم يعده أثراً عالمياً، وهو بالفعل كذلك، خاصة وأن منظمة اليونسكو قد ألحقته بقائمة آثارها الخالدة، وقد توقعت أن كل ما قرأته وسمعته عن هذه المدائن الأسطورية سيحفزني على ركوب المصاعب والرحيل إليها ليوم أو اثنين، لكن هذا لم يحدث. أطالع زملائي من الأمريكيين والأوروبيين وهم يتوجهون لزيارتها، بمجرد استقرار حياتهم العملية، ويعودون ليكتبوا انطباعاتهم عما شاهدوه من فتنة آثارية، أما أنا، الذي يزعم أنه شغوف بالفكر والتاريخ والمعرفة، فإن خيلي عازفة عن ارتياد متاهة مدائن صالح وما حولها، وأقصد الأماكن التي ارتادتها بعثة فرنسية تنقب عن مزيد من الكشوفات المطمورة في تلك الأرض التي هي أغلى من الماس في عرف المستكشفين ومستثمري التاريخ ..!. وقد كنت أعتقد أن ولادة الهيئة العامة للسياحة والآثار ستردم هذه الهوة بيني وبين آثارنا، وسأجد برامج زيارة المواقع الأثرية والمتاحف، على جدبها وجمودها وضيق ذات يدها، منتشرة في زوايا المدن وفي المدارس والجامعات وفي التجمعات السكانية، لكن هذا لم يحدث أيضاً، وطالما تمنيت أن يفاجئني زميل أو صديق أو متخصص في كهوف التاريخ بأنه سبقني إلى هناك، أو أن يقترح عليّ رفقة إلى ديار الأنباط، الذين امتدت دولتهم خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين إلى دمشق في الشمال، ومدائن صالح في الجنوب، وبلغت سيناء وغزة ونهر الأردن والبقاع، وكانوا يتحكمون في طريق البخور والعطور والتوابل قديماُ، والمهم أن لا أحد حولي كان يملك الحس أو الشهامة ليسافر إلى منطقتنا الشمالية. أقرأ الآن بين أخبارنا، أن فيلماً وثائقياً سعودياً هو “الحجر، مدينة الأنباط” الذي أنتجته الهيئة أصبح ضمن الأفلام الفائزة بجوائز المهرجان العالمي للأفلام السياحية الذي يعقد في البرتغال خلال هذا الشهر، والفيلم نفسه كان، أيضاً، أحد الأفلام التي اختيرت للعرض في مهرجان الجزيرة الدولي الثامن للأفلام التسجيلية. والخبر يفرحنا بلا شك لأن الهيئة تحاول أن تقدم عملاً لائقاً بأحد آثارنا الخالدة في ملتقى عالمي، ولأن صانعه مخرج سعودي هو خالد الحارثي الذي يعمل في بيئة فقيرة في كل الفنون وليس العمل التسجيلي أو الوثائقي سوى أحدها. لكننا سنكون أكثر محبة لآثارنا، حين نكون نحن أهل البلاد أول من يتعرف إليها، أول من يلمسها، أول من يتحرّق شوقاً لزيارتها، أول من يشرح فتنتها لأطفاله وذويه، وأول من يعشق تاريخها وينتمي إليه، ويباهي به، وأول من يشد الرحال إليها مثنى وثلاث وعشرات، قبل أن يشد الرحالة الأجانب ركائبهم إليها …!