قرر ذلك المعلم في مدرسة الأغنياء ( أبناء الذوات) أن يفرض على الطلاب موضوع إنشاء ( تعبير) فأمرهم أن يكتبوا حول موضوع ( الفقر) فكتب أحد التلاميذ من طبقة الأغنياء الأرستقراطيين: كان يا ما كان في سالف العصر والزمان ( أسرة فقيرة) الأب فقير والأم فقيرة والأولاد فقراء حتى السائق فقير وطباخ الأسرة فقير والشغالة التي تخدم الأسرة فقيرة وحارس المزرعة فقير….) !! دعابة محزنة لكن هكذا تفعل الأسوار المغلقة بفكر التلاميذ.والسؤال هنا: ماذا سيكتب طلابنا لو أمرهم المعلم بالكتابة عن قضية القدس؟ في الحقيقة هناك أدوات كثيرة لجعل ( قضية القدس) حاضرة في وجدان الأبناء ولكننا سوف نقصر الحديث في آليتين: ( المنهج المدرسي ) و( الإعلام، ممثلا في الفيلم الكرتوني).المناهج الدراسية في وطننا العربي آلة تفريخ معزولة عن النسيج الاجتماعي، حيث يظل الطالب وما يزال يشعر بأن المدرسة موقع جامد للمعرفة، يقبع فيه ساعات طويلة يومياً، ويدرس لسنوات عديدة، فيمتلئ بكم هائل من المعلومات النظرية داخل فصلٍ محاصر بأربعة جدران، وخلف سور عالٍ لا يرمز فقط إلى غربة المكان، وإنما يرمز أيضاً إلى حالة من العزلة بين المدرسة وبين الواقع الاجتماعي.وإذا استخدمنا أدوات الباحث في ميدان الأنثروبولوجيا الثقافية، فإننا نستطيع اعتبار أن أسلوب تعامل أي شعب من الشعوب مع قضاياه الوطنية يقع ضمن ما يعرف بالثقافة المقنعة ( Cover-Culture ) فهي عبارة عن مجموعة من القناعات وراء أنماط السلوك والتفكير، بمعنى أنها تجسد التصور القائم خلف تلك المسلَّمات. وقد نستعين هنا بتصنيف ( ألف لنتون) في الأبعاد الثلاثة للثقافة: الأول: الجانب المادي، والثاني: أنماط السلوك الظاهرة، والثالث: يتضمن ( المعرفة والقيم والاتجاهات) المشتركة بين الأعضاء.فالجانبان الأول والثاني يؤلفان الثقافة الظاهرة، والجانب الثالث يعبر عن الثقافة المقنّعة. والمدرسة حاضنة عظيمة للقيم، وأداة هامة لغرس الثقافة التحتية لقضايانا الوطنية، وأبرز هذه القضايا على الإطلاق قضية القدس. ولعل أبناء جيلنا يتذكرون كيف أن ( ريال فلسطين)، الذي غرسته المدرسة في الماضي، قد علمنا كيف نتقاسم الرغيف مع إخواننا في فلسطينالمحتلة، وهي تجربة وطنية ما تزال حاضرة في الوجدان. يقول الشعر:إن الشق وسط حبة القمح يرمز إلى أن النصف لك والنصف الآخر لأخيك. المدرسة العربية يمكنها أن تتحرك ضمن النسيج الاجتماعي وفق قاعدة (فن الممكن) كأن تقترح برنامجا معرفيا تحت عنوان ( القدس في قلوبنا ) كمدخل إلى الولوج للعالم الثقافي والمعرفي للطالب. فالأخبار والأحداث التي تسيطر على الرأي العام العربي والإسلامي متعددة، وفيها ما يخص القضية الفلسطينية بما تحمله من صور بشعة ودموية وحصار مؤلم لأهلنا في فلسطينالمحتلة. هذا البرنامج المقترح يجب أن يتضمن أسسا وضوابط على أن يقدم للطلاب أثناء الحصة المدرسية أو خارج حدود الزمن المقرر للدراسة، بحيث تتوفر له آلية للتنفيذ من خلال التنسيق والتشاور المسبق مع المعلم، وإدارة المدرسة. يفترض أن يتضمن برنامج (القدس في قلوبنا) أهدافا ووسائل مقترحة، فيكون البرنامج كالجسر الذي يربط الطالب بالحدث، باعتبار أن المدرسة تشكل معيارا أخلاقيا وإسهاما ثقافيا باذخا في مختلف مناشط الحياة. وإذا اقتنعت المدرسة بهيكل الفكرة فيمكن بعد ذلك أن تغذيها وتكسوها شحما ولحما عبر الحوار مع أصحاب الرأي والفكر التربوي النير.أما البعد المتصل بقوة الفيلم فإن هذا العصر هو عصر التخطيط المنفتح على عالم الحياة، فمن المعلوم أن المؤسسة الإعلامية في أنحاء العالم استطاعت أن تحتوي التلاميذ، بينما وقفت المؤسسة التربوية لدينا عاجزة مشلولة لأن المرئي أقوى.على سبيل المثال نجح اليابانيون في نشر لعبة كرة القدم عن طريق مسلسلات الرسوم المتحركة ( كابتن نوباسا) الذي ظهر عام 1981م، وهو المعروف في العالم العربي باسم ( الكابتن ماجد). جاء المسلسل بعد دراسة شاملة لاتجاهات الشباب الياباني الذي كان يكره أو لنقل لا يعرف شيئا عن كرة القدم. لكن المؤسف أن الأسرة العربية تفاعلت مع المسلسل ( الكابتن ماجد ) كمصدر للتسلية فقط، وكانت تشتريه كما تشتري العلب الجاهزة من السوبر ماركت. اليابان وعبر هذه الآلية الثقافية الخطيرة ( الفيلم) استطاعت أن تجعل من كرة القدم لعبة شعبية محبوبة، ويلاحظ الناس الآن، على مستوى العالم، كيف تفوق الفريق الياباني كرويا. بل إن اليابانيين ذهبوا في هذه المرحلة الحالية إلى أبعد من ذلك، حيث بدأ مسؤولو الاتحاد الياباني لكرة القدم بالتعاون مع الجهات الإعلامية من أجل إنتاج شخصية كرتونية جديدة تهتم بنشر لعبة كرة القدم في الأوساط النسائية باليابان. وقد كان أول افتتاح رسمي لهذه الشخصية في مؤتمر صحفي في العاصمة طوكيو بحضور اللاعبات اليابانيات في نهائي كأس العالم للسيدات عام 2011 بألمانيا.على المستوى العربي هناك تحولات في الخفاء لطمس (قضية القدس) واعتبارها قضية تخص الفلسطينيين فقط. فقد أجريت دراسة قارنت بين بطل مجلة (سمير) في فترة الحرب الممتدة بين (1967م -1973م) وبطل المجلة نفسها في فترة السلم الواقعة بين ( 1979م – 1985م) فوجدت الدراسة أن شخصية الإنسان العربي ( البطل ) في الفترة الأولى تتسم بالوضوح، فهو رجل شجاع، حارب عدوه الإسرائيلي، وانتصر عليه عام 1973م، ولكنه غير واضح الانتماء في الفترة الثانية، فهو أجنبي في المقام الأول، ونادراً ما يكون عربيا في المقام الثاني !! إضافة إلى أنه مُسلٍّ، ويضحك الأطفال، و»بوليسي» ورياضي، ولكنه قلّما يهتم بقضاياه الوطنية أو أمور الدين والعلم. المشروعات الإعلامية اليوم، مع الأسف، لا تقوم على منهج علمي ولا تتكئ على جهد ودراسات بحثية عميقة، بل باتت المشروعات سطحية كإطلاق قناة تليفزيونية، الأمر الذي لا يتطلب سوى حفنةٍ من النقود لتضمن حيزاً في قمر صناعي عربي أو غربي. وهذا المشروع لم يعد حكراً على الحكومات والدول بل أصبح متاحاً للمؤسسات والأفراد. وقد يقتصر الأمر على توفر مكان صغير، حتى لو كان ( شقة متواضعة) تستوعب أجهزة التصوير، وتسمح بتبادل شرائط تعرض تلقائياً أو تقنية بثٍّ لمتحاورين على منضدة، يواجهون آلة التصوير، ولن نتحدث عما يقال في هذه القنوات !!.رسالة (القدس في قلوبنا) واخزة، وتنحاز إلى رفض مشروع إهمال القضية، وتشتيت الانتباه إلى قضايا هامشية، فكل بوصلة عربية لا تشير إلى القدس مشبوهة.