قبل 21 عاماً وفي عام 1412ه الموافق 1991م، أصدر الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله قراراً بتشكيل مجلس للشورى. وقد استبشر الناس عامةً بهذه الخطوة الّتي تسهم في بناء أركان الدولة الحديثة التي تقوم أساساً على ثلاث سلطاتٍ رئيسية مستقلة وهي السلطة القضائية والسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. المملكة العربية السعودية ومنذ توحيدها على يد جلالة الملك عبد العزيز بن سعود رحمه الله في العام الهجري 1349، الموافق للعام 1931 ميلادي، قامت على سلطتين فقط، هما السلطة التنفيذية ممثلة بمجلس الوزراء والسلطة القضائية ممثلة بمجلس القضاء الأعلى والمؤسسات القضائية الأخرى. مجلس الوزراء يمسك بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، لذا فإن قرار إنشاء مجلس الشورى فُسر بأنه يؤسس لإكمال ما نقص، وبناء العمود الثالث من أعمدة الحكم الحديث، ألا وهو السلطة التشريعية. وقد سُمّيت هذه الهيئة الجديدة بمجلس الشورى، تيمناً بالدعوة القرآنية أن يكون الأمر شورى بين المسلمين يقول تعالى في محكم التنزيل «وأمرهم شورى بينهم...الآية» (الشورى 38). والشورى لغةً هي الاستخراج، فيقال شار العسل أي استخرجه واجتناه من موضعه وتعني أيضاً اختيار الشيء وفحصه ومعرفة كنهه. ويقول ابن عاشور : «والشورى مما جبل الله عليه الإنسان في فطرته السليمة، أي فطرة على محبة الصلاح وتطلب النجاح في المساعي... وإنما يلهي الناس عن حبها حب الاستبداد وكراهية سماع ما يخالف الهوى وذلك من انحراف الطبائع وليس من أصل الفطرة» ( محمد بن شاكر الشريف: حقيقة الشورى بين الإتباع والادعاء) عندما أُعلن نظام مجلس الشورى تمنى البعض وكنت أحدهم لو أن نسبة من أعضاء المجلس يتم اختيارها بالانتخاب وليس بالتعيين، فهذا أقرب إلى مقاصد الشورى وأهدافها، ولكن قال الكثيرون أن هذه البداية والقادم أفضل. وهكذا عاش الناس أمل الانتخاب ولو بعد حين. في يوم السبت 15 محرم 1433 الموافق للعاشر من ديسمبر 2011 عُقد في مدينة جدة في المملكة العربية السعودية اجتماع لرؤساء المجالس التشريعية الخليجية. وفي اليوم التالي تحدث معالي الدكتور محمد بن عبد الله آل الشيخ رئيس مجلس الشورى في مقابلة مع جريدة الحياة (16 محرم 1433 – العدد17782 ص1،ص12) عن عدة أمور تتعلق بواقع ومستقبل مجلس الشورى السعودي. فقال في معرض رده على سؤالٍ عن انتخاب مجلس الشورى: «نحن في السعودية نطبق مفهوم الشورى الحقيقي وهو أن يتولى الرأي اصطحاب الحل والعقد. وفي المفهوم الإسلامي هؤلاء هم الّذين يستشيرهم ولي الأمر عندما يكون هنالك جانب يرغب في الاستشارة فيه. ولكن إذا رأى ولي الأمر أي أمر آخرٍ لتطوير هذا المفهوم أو التحديث أو الإضافة فيجوز له من خلال ولايته الشرعية أن يطور هذا المفهوم بالضوابط التي تتفق مع الشريعة الإسلامية». ويقول معاليه أيضاً: «أن ما يقدم في مجلس الشورى السعودي بعيد عن أي انتماءات حزبية أو تطلع للشهرة والمصالح الشخصية، وأن الوضع الحالي وما يطبق لدينا هو المفهوم الحقيقي وهو تطبيق ناجح». ويقول أيضاً: «متى ما قارنا بين ما يدرس في مجلس الشورى مقارنة بأي برلمان عالمي و استعرضنا آلية البحث واتخاذ الرأي سنجد ما يبحث لدينا وما يقدم، يدرس بتجرد وهو كلام غير متحيز وموثق بشهادة علماء غربيين وغيرهم». معالي رئيس مجلس الشورى، معروف بخلقه العالي وسعة صدره للاستماع، كما ينقل عنه من داخل قبة المجلس، لذا فإنني أعتقد أنه لن يضيق ذرعاً بتحليلي النقدي لما جاء في تصريحاته، فالهدف في نهاية المطاف واحد، ألا وهو الإصلاح وخدمة هذا الوطن العزيز. أولاً: قال معاليه: نحن في السعودية نطبق مفهوم الشورى، ومفهوم الشورى الحقيقي هو أن يتولى الرأي أصحاب الحل والعقد وفي المفهوم الإسلامي هؤلاء هم الذين يستشيرهم ولي الأمر عندما يكون هنالك جانب يرغب في الاستشارة فيه. وأقول: إن مفهوم الشورى في الإسلام يندرج تحته كل ما يهم مصالح الأمة من قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية، أما أهل الحل والعقد فهو مصطلحٌ يعني أهل العلم والمعرفة القادرين على تفكيك جزيئات الأمور وتحليلها ومعرفة كنهها ثمّ ربطها وعقدها للوصول إلى قرارٍ بخصوص إشكالاتها. ويقول الشيخ عادل الكلباني:»إن أهل الحل والعقد مصطلح حادث لا وجود له في مصادر تلقّي الشريعة وإنما تواضع عليه فقهاء الأمة». القرآن الكريم لم يرد فيه ما يتعلق بموضوع الوسيلة الّتي تتم بها عملية الشورى، فقد تُرك ذلك لحال المسلمين وزمانهم. إن المفهوم الّذي أشار إليه معاليه قد يكون ملائماً وعملياً في صدر الإسلام وسنينه الأولى، أما وقد كبر المجتمع الإسلامي وتعددت دوله ومدنه وقراه، فإن المنهج الّذي نسير عليه الآن في اختيار أهل الحل والعقد (أعضاء المجلس) قد لا يكون هو الملائم والأفضل الّذي يحقق مقاصد الشرع العليا من مبدأ الشورى. عندما يوجّه القرآن الكريم خطابه إلى عامة المسلمين قائلاً بأن الأمر في كل ما يتعلق بشؤونهم وقضاياهم شورى بينهم، فهذا يعني أن يتدارس المسلمون أمورهم ليصلوا إلى اتفاق حولها يعقدون أمرهم عليه. فلو كان المسلمون في أي مجتمع على رأي واحد لما كان هنالك داعٍ للشورى . فالدعوة إلى الشورى تعني أنه من الطبيعي أن يكون هنالك اختلاف في الرأي بين الجماعة، وجاء القرآن يدعوهم إلى نبذ هذا الاختلاف والّذي هو أمرٌ طبيعي بشري والوصول إلى حل يقبلونه أو يقبل به غالبيتهم وبذلك يتفادى المسلمون الاقتتال كلما اختلفوا في أمرٍ بينهم. أهل الحل والعقد هم من أهل العلم والعدالة والديانة والعقل والبلوغ والأمانة والخبرة ولا يلزم لذلك سنٌ معينة، فقد كان الشبان من العلماء من أصحاب شورى عمر رضي الله عنه ولم يكن يتقيّد في ذلك بكونهم من الشيوخ أو كبار السن كما لا يلزم أيضاً أن يكونوا من أشراف القوم أو أغنيائهم (محمد بن شاكر الشريف- المرجع السابق). هؤلاء النفر من المسلمين ممن أسبغ عليهم المجتمع صفة أهل الحل والعقد كانوا معروفين في مجتمعهم الصغير، لكن عندما كبرت المجتمعات الإسلامية وتعددت دولها ومدنها وكثرت قضاياها وأمورها لم يعد بالإمكان تحقيق مبدأ الشورى بين المسلمين من خلال معرفة المواطن لمن له صفة الحل والعقد الّذي يصلح أن يعبّر عن رأيه بخصوص قضاياه السياسية والاجتماعية والاقتصادية في عملية الشورى. لذا، فإن الانتخاب في نظري أصبح هو الوسيلة الأنجع لتحقيق مقاصد الشرع العليا من مبدأ الشورى. وإن كان تعيين أهل الحل والعقد من قبل ولي الأمر قد تم في عصور إسلامية متقدمة، لظرف سياسي أو اجتماعي أو تقني لم يسمح بإجراء عملية الانتخاب، فهذا أمر ووضع عارض وليس هو القاعدة. وها هي الدول الإسلامية في معظمها تعتمد الانتخاب وسيلة لاختيار من يمثلون المواطنين من أهل الحل والعقد في مجالس الشورى أو المجالس النيابية. وها هي المملكة العربية السعودية تطبق أيضاً الانتخاب فيما يتعلق باختيار أعضاء المجالس البلدية. ومما يعزز المنحى في هذا التفسير المرتبط بمقاصد الشريعة من الشورى، هو أن عملية الانتخاب هي عملية تعريف يقدمها من يدعى لنفسه صفة الحل والعقد (المرشح) إلى الناخب (المواطن) عن ذاته وسيرته وقدراته وأفكاره ورؤاه في حل المشكلات التي يعانيها المواطن. وفي يوم الانتخاب يذهب المواطن إلى صندوق الاقتراع ليختار ذلك المرشح من أهل الحل والعقد، الذي رأى فيه المواطن (الناخب) خير ممثل له ولقضاياه في مجلس الشورى. لذا، فإنني أعتقد أن الانتخاب وليس التعيين هو الأقرب إلى تحقيق المقاصد الشرعية من مبدأ الشورى. لقد استدرك معالي الدكتور عبد الله آل الشيخ رئيس مجلس الشورى السعودي ما قاله في مقدمة حديثه وقال في الفقرة التي تلت المقدمة: «ولكن إذا رأى ولي الأمر أي أمر آخر لتطوير هذا المفهوم أو التحديث أو الإضافة، فإنه يجوز له من خلال ولايته الشرعية أن يطوّر هذا المفهوم بالضوابط التي تتفق مع الشريعة الإسلامية». وهنا لا يسعني إلا أن أحيي معالي الدكتور على هذه الإضافة وفتح الباب، ولو كان بشكل قليل، لإفساح المجال لعملية التطوير والتحديث وأحسبه أنه يعني بها هنا عملية الانتخاب، لأن السؤال أصلاً يتعلق بعملية الانتخاب. وكنت أتمنى لو أن معاليه كان أكثر وضوحاً، فولي الأمر له علينا واجب النصح بوضوح وتجرد من أي مصلحة مادية أو معنوية. لكن معالي الدكتور، ورغم الفجوة الصغيرة التي فتحها في باب الإصلاح والتطوير عاد ليقول:»إلا أن الوضع الحالي لدينا هو المفهوم الحقيقي وهو تطبيق ناجح» ثم قال: «متى ما قارنا بين ما يدرس في مجلس الشورى مقارنة بأي برلمان عالمي واستعرضنا آلية البحث واتخاذ الرأي سنجد أن ما يبحث لدينا وما يقدم يدرس بتجرد وهو كلام غير متحيز وموثق بشهادة علماء غربيين وغيرهم». كما ذكر معاليه في نفس المقابلة: «أن ما يقدم في مجلس الشورى السعودي بعيد عن أي انتماءات حزبية وتطلع للشهرة والمصالح الشخصية». أختلف مع معالي الدكتور عبدالله في تشخيص واقع الحال، فأنا لا أعتقد أن ما يطبق لدينا هو المفهوم الحقيقي للشورى كما يقول سواء اعتمدنا المفهوم الإسلامي أو المفهوم الغربي، وكلاهما من حيث المبدأ والهدف في نفس الاتجاه، رغم أن السبق للمفهوم الإسلامي، إلا أن هذا الأخير وقف عن التطور والتحديث بعد ولادته، كما هي أحوال المسلمين الأخرى. أما بخصوص المقارنة، بين مجلس الشورى وبين البرلمانات العالمية فيما يتعلق بما يدرس في المجلس وآلية البحث واتخاذ الرأي، فإنني أقول لمعاليه الفرق شاسع يا معالي الدكتور ومن نقل إليك هذه المقارنة جانب الصواب، حتى لو كان من العلماء الغربيين الذين استشهدت بهم. كما أن أعداءنا وأصدقاءنا من شرقيين أو غربيين، الحق بالنسبة لهم ما يخدم مصالحهم وليس الحق ما شهدت به الأعداء. أما بخصوص أن ما يقدم في المجلس هو بعيد عن أي انتماءات حزبية أو تطلع للشهرة أو المصالح الشخصية فإنني اتفق مع معاليه أنه بالفعل بعيد عن أي انتماءات حزبية لأنه لا توجد أحزاب في المملكة، ولكني أحسب أن معاليه قصد بالانتماءات الحزبية الانتماءات القبلية أو الجهوية. على العموم هذه نعوت وصفات شخصية تتعلق بأعضاء مجلس الشورى وأنا أو معالي الدكتور لم نشقق عن قلوبهم، لكنهم في الظاهر كما يبدو لي من خيرة الناس. والأمر في أصله هنا لا يتعلق بموضوع الأشخاص، فهم يأتون ويذهبون ولكنه يتعلق بواقع ومستقبل مؤسسة مجلس الشورى التي تشكل الركن الثالث من أركان الدولة الحديثة. النقطة الثانية التي جاءت في تصريح معالي الدكتور عبد الله آل الشيخ رئيس مجلس الشورى السعودي والتي أريد الحديث عنها تتعلق بمشروع الدعوة إلى برلمان خليجي موحد، ويقول معاليه في معرض رده على هذا السؤال: «الروح موجودة والأماني موجودة لكن هذا شيء سابق لأوانه». قول معاليه بأن الروح موجودة والأماني موجودة تعبير جميل أعتقد أنه يعكس كثيرا ما في النفوس، إلا أن القول بأنه سابق لأوانه، استوقفني لأن هذه المقولة أصبحت جزءاً من أدبيات الإصلاح في السعودية، فهناك أمور كثيرة تتعلق بوضع المواطن وحياته تكون الإجابة عليها غالباً هذا: «شيء سابق لأوانه» رغم أن الأوان قد حان وفات. نحن هنا في هذه البلاد لسنا في معزل عن العالم ولن نستطيع أن نكون ولو أردنا، ونحن في هذه البلاد لا نملك التحكم في سرعة قطار الحضارة البشرية، ولا نملك أن نكون خارجه، لأن العالم كما هي الحقيقة اليوم، أشبه بقرية واحدة.