يروق لي أحيانا الرجوع لسير أعلام النبلاء والذهبي، واليوم وجدتني في صفحة الآمدي، وهو العلامة المصنف فارس الكلام سيف الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الآمدي الحنبلي ثم الشافعي. له ما يقارب العشرين كتاباً. كتب في الأصلين: أصول الفقه وعلم الكلام، ودرّس الفلسفة. أهم كتبه (أبكار الأفكار) وكتابه (الإحكام في أصول الأحكام) من أقوى وأهم كتب الأصول -بالاتفاق- إن لم يكن أهمها وأكثرها سلاسة وتشويقاً، لا ينافسه في ذلك إلا المستصفى للغزالي. جاء في ترجمته: لم يكن في زمانه من يجاريه في الأصلين، وكان يَظهر منه رقة قلب وسرعة دمعة، أقام بحماة، ثم بدمشق. ومن عجيب ما يحكى عنه أنه ماتت له قطة بحماة فدفنها فلما سكن دمشق بعث ونقل عظامها في كيس ودفنها بقاسيون! درّس بالعزيزية مدة، ثم عزل عنها لسبب اتهم فيه، وأقام بطالا في بيته. ثم مات في رابع صفر سنة إحدى وثلاثين وست مائة، وله ثمانون سنة كان هذا لأسباب علمية وأخرى سياسية. ما هو هذا السبب الذي اتهم به الآمدي؟ السبب هو ما ذكره الذهبي حين كتب «قال لي شيخنا ابن تيمية: يغلب على الآمدي الحيرة والوقف، حتى إنه أورد على نفسه سؤالاً في تسلسل العلل، وزعم أنه لا يعرف عنه جواباً، وبنى إثبات الصانع على ذلك، فلا يقرر في كتبه إثبات الصانع، ولا حدوث العالم، ولا وحدانية الله، ولا النبوات، ولا شيئا من الأصول الكبار». ومقصود شيخ الإسلام هنا أن الآمدي لا يناقش هذه القضايا، ولا يقصد أن الآمدي ينكرها. علق الذهبي فقال: «هذا يدل على كمال ذهنه، إذ تقرير هذا بالنظر لا ينهض، وإنما ينهض بالكتاب والسنة، وبكلٍ كان السيف غاية، ومعرفته بالمعقول نهاية، وكان الفضلاء يزدحمون في حلقته.» إلا أن الذين ازدحموا على حلقته لم يكونوا كلهم من الفضلاء، فقد ذكر الذهبي قصة عن أحد تلاميذه قوله: «كنا نتردد إلى السيف، فشككنا هل يصلي أم لا؟ فنام، فعلّمنا على رجله بالحبر فبقيت العلامة يومين مكانها، فعلمنا أنه ما توضأ، نسأل الله السلامة في الدين!». لم يلتفت شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه القصة فقال في نقض المنطق ص156: «وكان من أحسنهم إسلاماً وأمثلهم اعتقادا». وهذه القصة قد سمعتُ عدداً من أشياخنا يستشهدون بها على سوء الأدب الذي قد يقع فيه التلميذ مع أستاذه وكانوا يُنفِّرون من هذا الفعل تنفيراً شديدا. جاء في ترجمة الآمدي: «تبحر في العلوم، وتفرد بعلم المعقولات والمنطق والكلام، وقصده الطلاب في البلاد، وكان يواسيهم بما يقدر، ويفهّم الطلاب ويطّول روحه «. فلعل صاحب الحِبر هذا كان ممن يواسيهم الآمدي بما يقدر ويتصدّق عليهم ويصبر عليهم متأملاً أن يخرج منهم تلاميذ نجباء يحملون علمه. إلا أن هذه هي طبيعة الناس فليس كلهم نجباء، بل لابد أن يوجد فيهم كصفيق الوجه هذا. وهو بكل حال لا ينتمي لأسرة طلبة العلم، بل إلى أسرة البطالين الفاشلين الذين لم تُزك لهم نفوس ولا دين. هذا السلوك لا يمثّل المنهج الإسلامي بنقائه وزكائه، فمن حفظ القرآن في صدره، صار القرآن أقرب إليه من الأوكسجين، وهؤلاء لن تجد سمتهم في أحد من البشر ولن تجد من يدانيهم في عفة اللسان وطهر القلب، وواحدهم لا يجد الوقت أصلا للتنبيش وراء الناس وسلوكهم، إذ ما بقي من يومه بعد استبعاد ساعات نومه وطعامه ورعاية أهله هو لمراجعة حفظه في ساعات يقتطعها من حياته لكيلا يتفلت القرآن منه. ومن اشتغل بحفظ السنة، أسره الاقتداء بسيد البشر عليه الصلاة والسلام، وانغرست في نفسه الرغبة في أن يطبق كل سُنة يعلمها عنه ولو مرة واحدة. ولا شك أن مسح كعب الشيخ بالحبر ليعلم هل يتوضأ أم لا يتوضأ، لا يمت بقريب ولا بعيد للمنهج الأسمى الذي سار عليه محمد صلى الله عليه وسلم. أما الرد على المخالف -خصوصاً في قضايا العقيدة- والدفاع عن حوزة الدين وتبيين الخلل في المعتقدات الفاسدة من معتقدات قديمة مخالفة للإسلام، أو مناهج جديدة كالمناهج العلمانية والفلسفات الحديثة الملحدة والشكوكية أو المنحرفة فهذا من أوجب الواجبات على العالم، فيظهر الحق ويفسد دعوات الضلال بتعرية ما فيها من انحرافات تهدد العقيدة والمجتمع والوطن. إلا أنه شأن يحتاج لكثيرٍ من الحذر والكياسة كي لا يتحول لمحاكم تفتيش تلاحق الأفراد وتضع الحبر على أرجلهم كما يفعل الفاشل البطّال الباحث عن البطولة دون استحقاق.