صفحات تاريخية: 1967م. 1979م. 1990م .2001م. 2011م. عندما تفتح صفحة جديدة في التاريخ، لا يعني تمزيق الصفحات القديمة كما يظن البعض فالأحداث الكبرى لا تلغي بعضها لكنها تفقد زخمها بمرور الوقت حتى يأتي حدث ضخم آخر يقدم رسالة أخرى. « منذ عهد أرسطو والدارسون يقولون إن التاريخ يدرس الأحداث الفردية، وأن علم الطبيعيات يدرس الحوادث المتواترة «عبدالله العروي. مع كل حدث ضخم تنثر في الأذهان مئات الأفكار والأسئلة والأزمات وتتخلق بعدها مفاهيم جديدة، وتتهمش أخرى وليس بالضرورة موتها كليا. تتعدد القراءات والكتابات وتحاول جهات متعددة ونخب تزوير الفكرة الرئيسية للحدث بالتقاط حدث هامشي هنا، وتصرف آخر هناك، لمقاومة الوعي الجديد. تنجح بالتشويش المؤقت أحيانا لكن التاريخ يقول كلمته أخيرا. هناك صعوبة كبيرة في إخفاء الرسالة الكبرى التي يقدمها كل حدث تاريخي، تختلف تعبيراتنا عنها، تتنوع قراءتنا للصورة والمشهد الكلي، نتحايل في صياغة آرائنا وأفكارنا وفق مصالح آنية مع أو ضد الحدث .. لكن هناك رسالة ذات فكرة محددة تبقى صامدة ضد أي تلاعب، يعبر عنها الصغير والكبير بعفوية في المجتمع دون وعي، وهي التي تحدث التغيير في المجتمعات والأنظمة السياسية، فنتحدث بعدها عن التحولات التاريخية. خلال نصف قرن برزت مجموعة أحداث كبرى في منطقتنا تركت بصمتها على العالم العربي لم تفلح جميع المحاولات في التلاعب برسالتها الحقيقية، فقد كانت هزيمة 1967م في حقيقتها لحظة انفجار بالونة المد القومي والوحدوي في المنطقة ونهاية الناصرية، بعدها حاولت منذ السبعينيات قوى وأنظمة وأحزاب ونخب ثقافية وإعلام ضخم مواجهة هذا الانحدار التاريخي التدريجي حيث فشلت جميع الحيل والفذلكات الخطابية. ومع ذلك فخلال السبعينيات والثمانينيات استمرت كثير من الأحزاب والاتجاهات المتاجرة بجسد العروبة الميت إكليلنيكا لصالح أنظمة عسكرية شمولية. وخلالها كانت الأنظمة التي تلمز برجعيتها تستثمر في عوائدها النفطية. ربطت بدايات الصحوة الإسلامية بهذه النكسة وزاد زخمها مع الثورة الخمينية 1979م والجهاد الأفغاني. كان يجب قراءة رسالة النكسة مبكرا والتعلم منها عند تلك النخب والأنظمة لكنه العناد والتعصب الأيدلوجي الذي كان بحاجة إلى إطلاق رصاصة الرحمة على تلك الشعارات الثورية في محطة الغزو العراقي للكويت 1990م لتنكشف بقايا الأوراق، وبالرغم من الانكشاف لأخلاقيات البعث إلا أن تلك اللحظة التاريخية شهدت مقاومات كبيرة من بقايا قوى واتجاهات قومية قبل أن تستسلم أخيرا لحقائق الواقع والهزيمة السياسية والفكرية، فأصبحنا بعدها في حفل نقدي لها استمر طويلا. ومع ذلك فقد ظلت بقايا تصرخ هنا وهناك في فضائيات أو محافل ومؤتمرات لكن التاريخ كان يسير باتجاه استمرار الشعبية للقوى المحافظة الإسلامية ومع نهاية المعسكر السوفيتي وتطور تقنية الاتصال تغير العالم كثيرا. في المشهد استمر صعود القوى الإسلامية بأطيافها المتعددة وتحالفاتها المختلفة بين التشدد والاعتدال حيث خلت الساحة الفكرية لها مع انهيار الأيدلوجيات الأخرى، حتى جاءت لحظة سبتمبر 2001 م عندما خطف التشدد الإسلامي الراية وأربك تيار الواقعية والاعتدال في هذا التيار الذي اتضح أنه يعاني من ثقوب أخلاقية وقصور شديد في الوعي السياسي، حيث ترددت أصوات كثيرة من المفترض أن تكون في معسكر الاعتدال فتأخرت كثيرا في حسم موقفها بوضوح. جاءت لحظة سبتمبر محملة برسائل ضخمة عالمية وإقليمية. فهم العالم حينها أنه ليس صحيحا أن ما يحدث في دولة لا علاقة للدول الأخرى به .. صحيح أن التفخيم المفتعل كان حاضرا من عدة جهات حاولت توظيف الحدث لمصالح سياسية وأيدلوجية. لقد شاركت حينها في ذلك الوقت في عشرات المقالات ضد الحدث وتوقفت عند كثير من التلاعبات الأخلاقية والدينية والسياسية والفكرية وأجدني اليوم لم أندم على كل سطر كتبته حينها. كانت تلك اللحظة وما بعدها من سنوات مليئة بالأخطاء الإعلامية والفكرية والإسلامية وبالممارسات النفعية التي تريد أن تحرف رسالة الحدث عند أكثر من جهة وشخصيات متنوعة وهي تستحق الكتابة عنها بالتفصيل الطويل أتركها لمكان آخر. كانت هذه الأخطاء جزءا من أسباب انتشار المشكلة وتسرب الوعي العنفي لفئات صغار السن. شعرت الحركات الإسلامية بخطورة الأمر بعد الإفاقة من الصدمة، فتغيرت أفكار ورؤى كثيرة ساعدت أن تكون مهيئة أكثر في الاستفادة من محطة الربيع العربي في 2011م، ولهذا تأمّل ردود الفعل المستنكرة في دول عربية كثيرة من التيارات الإسلامية بصورة عامة على قتل السفير الأمريكي في ليبيا قبل يومين فهي تكشف أن شعبية القاعدة وتأييد العنف انحسر كثيرا. وجود أصوات نادرة ومحدودة جدا مقارنة بليلة سبتمبر وبعضها بأسماء رمزية لا تدري من يكون هو في الحقيقة يؤكد هذا التغيير الذي حدث. وإذا كانت لحظة 1990 م هي ضربة عميقة للفكر القومي والوحدوي، فإن لحظة 2001م ضربة عميقة للفكر المحافظ والحركات الإسلامية وقدرتها على التعايش مع العصر. مقابل ذلك كان ربيع 2011م هو ضربة عميقة لأفكار الأنظمة والسلطة في العالم العربي، فقد كان الاستقرار الطويل لأنظمة عسكرية صنع وهما عاما باستحالة التغيير في العالم العربي مهما كان سوء النظام الحاكم، وأن كل شيء سيظل كما هو عليه، وجميع إشارات تطور تقنية الاتصال التي تؤكد وجود تغير في الأجيال لم تفلح في تنبيه هذه الأنظمة التي تساقطت. كانت لحظة 11 فبراير 2011م ليلة تنحي مبارك هي قمة توهج الربيع العربي وما زالت تؤكد رسالة محددة يمكن أن نشوش عليها بابتكار حيل كثيرة على طريقة محمد حسنين هيكل مع النكسة، لكن في الأخير هناك فكرة محددة وصلت للجميع للصغير والكبير قد نختلف في طرق التعبير عنها في مجتمعاتنا العربية لكنها في النهاية عبرة واحدة. «لا ريب في أن على من يعد الأيام أن يعلن في نهاية كل عقد من السنين:» لن يكون بعد شيء كما كان قبلا» ريجيس دوبريه.